في الردّ على كتابِ يوسي كلاين هاليفي ” رسائلٌ إلى جاريَ الفلسطينيّ” – عبدالجواد سيد
عزيزي يوسي
،تحية طيبة وبعد
أولاً أودّ أن اشكرك على مشاركتى كتابك القيّم ، رسائلٌ إلى جاريَ الفلسطيني ، الغنيّ بعاطفته وبلاغته ونياته الحسنة، والذى قررتُ أن أنشر تعليقى عليه فى مقالى هذا، رغبة فى تعميم الفائدة ، وتوسيع دائرة الحوار بدلاً من قصره علينا ، فرغم أن كتابك يحمل عنوان “رسائلٌ إلى جاريَ الفلسطينيّ” فهو أيضاً رسائل الى جيرانك الشرق أوسطيين، المسلمين تحديداً، الذين يرفضون وجودك ، تماماً مثل جارك الفلسطيني، ولذا فانا أرى أن مشاركة غير الفلسطينين بالرأى هو أمر طبيعي، وبصفتى أحد هؤلاء أحب أن أخبرك بخبر مذهل، وهو إننى قد إقتنعت بروايتك التاريخية والمعاصرة كل الإقتناع ، بل إننى مقتنع بها فى الواقع حتى قبل أن ترويها فى كتابك ، فالوجود التاريخي لليهود فى فلسطين حقيقة لاريب فيها ، كما أن إسحاق هو صاحب الحق فى ميراث إبراهيم، وليس إسماعيل. كذلك فأنا مقتنع كل الإقتناع بأن رغبة الإسرائيليين فى السلام هيَ أكبر من رغبة الفلسطينين ومحيطهم الإسلامي، والذين لا يقبلون إلا بمبدأ كل شئ أو لاشئ، بينما قد قدم الإسرائيليون أكثر من فرصة للسلام ، سواء فى قرار التقسيم سنة 1947 ، أو فى كامب ديفيد سنة 2000 وبمبدأ التنازلات المتبادلة ، وليس بمبدأ كل شئ أو لاشئ ، ذلك السلام الذى تسميه فى الرسالة السادسة من كتابك (بإقتسام العدالة) وهيَ الرسالة التى بدأت منها رفضي لباقى الرسائل ، بعد أن كنت قد إقتنعت بها
إن التلميحات التى جاءت فى الرسائل الخمس الأولى جاءت فى رسالتك السادسة واضحة صريحة ، فى هجومك على اليسار الإسرائيلى بائع الوهم كما تَصفه ، وعلى الحضارة الغربية العلمانية ، حضارة الهولوكست كما تصفها ، وفي تأكيدك على أن اليمين الإسرائيلي المتديّن الذى تنتمي إليه ، وكذلك الفلسطيني بطبيعة الحال ، هما وحدهما القادران على تحقيق السلام بين الشعبين على منهج التوراة والقرآن وإسحاق وإسماعيل ، وليس على منهج مبادئ حقوق الإنسان ، ثقافة الحضارة الغربية ، ذلك الطرح الذى وجدت فيه ، وبرغم تقديري لحسن نياتك ، منهجاً باطلاً كل البطلان، يقلب كل رسائلك للسلام رأساً على عقب، ويجعلها مجرد أحلام وأوهام مغلوطة، فكيف يمكن لثقافتنا القديمة، الأسطورية الموروثة التي هى سبب مشاكلنا، أن تكون هي أيضاً سبب خلاصنا؟
لقد راهن اليسار الإسرائيلي على سلام الشعوب وفشل لإنه لم يكن هناك على الجانب الفلسطيني يسار بنفس الوعي والقوة ، ولقد راهن اليمين الإسرائيلي على سلام السياسة وإنسحب فعلاً من سيناء وغزة ، لكن السلام مع ذلك لم يتحقق، لإن سلام الشعوب وليس سلام السياسة، هو السلام الحقيقي، والذى لن يتحقق إلا عندما تكتمل ظروفه المناسبة
لقد وصَفتَ الحضارة الغربية بحضارة الهولوكوست رغم أنها الحضارة التى تعلَّمت منها الديموقراطية التى تفوّقت بها على أبناء عمّك ، ولقد عظّمت الدينَ والقومية كل التعظيم رغم أنّهما داء البشرية الأكبر. كذلكَ فإن وجود بضعة خيّرين من المتدينين والقوميينَ لايمكن أن يقود مسيرة السلام بين الشعبين، وإلا لماذا تأخروا كل هذه القرون الطويلة، إن وحدة الإبراهيميين التى تعبر عنها بقيام إسماعيل وإسحاق بإتمام مراسم دفن أبيهما هى مجرد أسطورة لاتعنى شيئاً، لإنه من المعروف فى ثقافة الشرق الأوسط ، أن الناس تتوحد فى الجنازات، لكنهم يستأنفون الصراع والعداوة بمجرد إنتهاء مراسمها ، كما إن إله إبراهيم الذى يجمعهما -والذي تستشهد به دائماً ،- هو نفسه الذى حكم مرّة بأن غير اليهود كفرة ، ومرة أخرى بأن الدين عند الإسلام ليس أكثر.
إن الإستشهادَ ببعض الآيات التي تحضّ على العدل أو السلام من التوراة أو القرآن لايمكن أن ينفيَ أنها نصوص كتبت لشعوبٍ وقبائل متصارعة فى عصور قديمة لم يعد لها وجود فى عالم اليوم الذى يقوده العلم والفكر، ولايشوبه فى الواقع سوى أنه لم يستطع بعد التخلص من مؤثرات تلك العصور القديمة. أنك كمن تنكر علينا أن يكون لنا عصر أنوار خاص بنا فى الشرق الأوسط ، و تحكم علينا بأن نظل أسرى لتلك الكتابات المقدسة القديمة، رغم أن العلوم الحديثة قد أثبتت -وكما تعلم – أنها نصوص منقولة من نصوص حضارية وثنية أقدم منها ، وليست منزلات إلهية كما مازال يعتقد المتديّنون من أبناء إبراهيم جميعا
وبإختصار، فإن الخلاصة التي أود الوصولَ إليها هى أن السلام بين أبناء العم ، الإسرائيليينَ والفلسطينيينَ ، يحتاج إلى ثقافة جديدة غير شريعة إبراهيم وإسحاق وإسماعيل، شريعة مبادئ حقوق الإنسان الثلاثين وربما أكثر ، شريعة الإشكينازي العلماني الإسرائيلي وليس شريعة المزراحي المتدين ، الإشكنازي الذى بنى إسرائيل الحديثة هو الذى سيحقق لها السلام أيضاً عندما تكتمل الظروف المناسبة ، نفهم كم هو حضن الإله آمن، وكم هو حضن القبيلة دافئ ، وأن ذلك كان سر بقاء إسرائيل حتى اليوم، كما أشرت فى كتابك. مع ذلك فإن حضن الإنسانية أرحب وأرحم، حيث للحضارة الدنيوية علومها وآدابها وفنونها وأعمالها الخيرية وروحانيتها أيضاً ، وحيث أمّنا الأرض واحدة ، حسب تعبير أرنولد توينبي ، حيث لايوجد صراع هوية ، بل ربّ واحد وعالمٌ واحد وإنسانٌ واحد، إن مثل هذه الثقافة هى التي نحتاجها وهى المدخل المناسب لأيّ حوار سلام حقيقيّ ليس فقط بين أبناء إبراهيم، ولكن بين كل البشر، مدخل الحضارة الغربية التي مازلت تخوض معركتها الشرسة ضد الدين والقومية، والتى أرى إسرئيل الحديثة كإمتداد لحضارتها وليس لحضارة التوراة كما تتصور
ذلك الإمتداد الذى يفتقده أبناء العم الإسماعيليين ، حيث أن حضارتهم مازلت فى أساسها إمتداداً لحضارتهم الإسلامية
الإسماعيلية ، وليس لحضارة الغرب الدنيوية العلمانية التى بها تفوقتم عليهم
إن فكرة الإصلاح الدينى والمصالحة الدينية والتفسير الحديث للنصوص الدينية ، من أجل حلحلة الصراع بين العلمانيي
والمتدينين داخل إسرائيل بين من جهة ، وبين الإسرائيليين والفلسطينين من جهة أخرى، والتى إقترحتها فى كتابك، هي فكرة عبثية مازلنا ندور ونلف حولها فى كل مكان فى الشرق الأوسط وليس فى إسرائيل وحدها، يجب أن ننفصل عن عصور الدين والقومية إلى مفاهيم وأفكار أخرى أكثر نضجاً وملائمة للحياة المعاصرة وتطورها العلمى ، بفكر إنسانى مواكب لذلك التطور، وتجمعات سياسية إقليمية تراهن على وحدة التراب وتتجاوز وحدة الهوية، كما هو الحال فى أماكن كثيرة من عالم اليوم المتطور. هذا هو الفكر الذى يمكن به حل الصراع مع الجار الفلسطينى فى دولة واحدة أو دولتين( مش حاتفرق )، ويمكننا بعد ذلك أن نترك الدين مسألة شخصية ، وبالطبع فإن ميراث إبراهيم وإسحاق وإسماعيل لايمكن أن يكون جزءُ من هذا الحل المعقد ، فكيف يمكن أن يصالحك الإسماعيلى وقد إنقسم هو نفسه إلى شيعى وسنى وطوائف ومذاهب متناحرة، وكيف يمكن أن تصالحه وقد إنقسمت أنت نفسك إالى إشكينازى ومزراحى وأثيوبى وطوائف ومذاهب متباعدة؟
تحياتي وتقديري وشكراً على مشاركتي كتابكَ القيّم
عبدالجواد سيد