عزيزي يوسي
بدايةً دعني أقدمُ لكَ أطيبَ التهاني والتبريكاتِ على هذا العملِ المميّز والذي من شأنه أن يُلهمَ الكثيرين، هذا الكتابُ الذي أجدتَ كتابتهُ بأسلوبٍ جريءٍ سلسٍ بناءاً على طرحٍ دينيّ يصبّ في مصلحةِ دولةِ إسرائيل. بالنسبةِ لليهودِ فإنّ الأفكارَ والمواضيع التي تطرحُها في كتابكَ هي أمورٌ بديهيّة بالنسبة لكلّ يهودي، لكن المميّزَ هُنا هو أنّكَ تُخاطبُ الجمهورَ الفلسطينيّ بهدف تعريفِ الفلسطينيينَ بهذه الأفكار
وكابنةٍ لأحد اللاجئينَ اليهودِ الذين هُجروا قسراً من العراقِ فقد شعرتُ بسعادةٍ غامرةٍ عندما وجدتُ في كتابكَ ذلكَ الوجهَ الشرقَ أوسطيَّ لدولةِ إسرائيل، خاصةً وأنّكَ تطرّقتَ إلى جانبٍ مهمٍ من جوانبِ قضيّتنا وهو اليهودُ المزراح وانتماؤهُم المتأصّلُ إلى هذه المنطقة، هذا الجانبُ الذي يَغفلُ عن الحديثِ عنهُ الكثيرونَ مع الأسف الشديد
وبالعودة إلى كتابكَ عزيزي يوسي، فقد ذكرتَ بأن غالبيّة الإسرائيليين قدِموا إلى دولةِ إسرائيلَ كلاجئين، لكن كان يتوجّبُ عليكَ أن توضّحَ وتؤكّدَ للقرّاءِ حقيقة أن اللاجئينَ اليهودَ من الدولِ العربية لم ينخرطوا في أي مواجهةِ مع الدول العربية عندما كانوا يعيشون هناك، وبأنهُم كانوا بمثابة كبش الفداءِ لهذا الصراع، إذ أنّهُم دفعوا ثمناً باهظاً وتعرّضوا لظُلمٍ شديد لا لذنبٍ اقترفوهُ سوى أنّهُم يتشاركونَ الدينَ نفسهُ والقومية نفسها مع الإسرائيليين. لقد تعرَضَ يهودُ الدول العربيّة للطردِ من أوطانهِم إلى أماكن تبعدُ عنهُم آلافَ الأميال، لا ثلاثينَ ميلاً فقط مثلما حدثَ مع اللاجئين الفلسطينيين، فيما اضطرّوا لتعلّم لغةٍ جديدةٍ واكتسابِ ثقافةٍ جديدةٍ نتيجةً لهذا الطرد القسري من أوطانهِم.
كذلكَ كان يتوجّبُ عليكَ أن تُشير إلى نقطةٍ هامة جداً: وهي أن ما حدثَ حينها كان بمثابةِ تبادلٍ سكانيّ للعددِ نفسهِ تقريباً من اللاجئينَ العربِ واليهود، تبادلٌ نهائيّ لا مجال للتراجعِ عنه أو تغييره، بالتالي فإن الجانبَ العربيّ يتحمّلُ مسؤوليةَ استيعابِ واحتضانِ اللاجئينَ الفلسطينيينَ سواءاً في دولةٍ فلسطينيّة او في دولٍ عربيّة مُضيفة، بحيثُ يجبُ أن تكونَ هذه الفكرةُ أساساً لأي طرحٍ مستقبليّ لتحقيق السلامِ والمصالحةِ بين الجانبين.
ومن وجهةِ نظري فقد كنتَ كريماً أكثرَ من اللّازمِ عندما تحدّثتَ عن الروايةِ التاريخيّة للجانبِ الآخر عزيزي يوسي، خاصةً وأن قسوةَ العربِ والعنفَ الذي تعرَضنا لهُ من قبلهِم قد اختفى من حديثِك وكأنك وازنتَ بطريقةٍ أو بأخرى بين أخلاقيّاتِنا وأخلاقيّاتهِم. فالنسأل أنفُسنا هُنا: من الذي بدأ هذا الصراع؟ ليسَ هنالكَ أدنى شكّ بأن الرّفضَ العربيّ لقرارِ التقسيمِ وقيامَ العربِ بشنّ الحربِ على دولةِ إسرائيلَ سنة 1948 هما السببان الرئيسيّانِ لاشتعال هذا الصراع بيننا وبينهم
كذلكَ فإنّ الفرقَ بين الجانبين هو أن روايةَ أحدِهما عبارةً عن حقيقةٍ تاريخيّة بحدّ ذاتِها، بينما أن روايةَ الطرفِ الآخرِ هي روايةٌ كاذبةٌ رغم ما يشوبُها من حذفٍ واضافةٍ وبلبلة، أو بأحسن حالاتها هي محضُ حلُمٍ مُستقبليّ ليس أكثر. كذلكَ فإن الجدارَ العازلَ لا يُشكلّ أي إهانةٍ أو مُشكلةً في ظلّ الحرب التي شنّها الارهابيونَ ضدّ دولةِ إسرائيل. إن هذا الجدارَ يمثّلُ رمزاً للكفاحِ من أجل البقاء على قيدِ الحياةِ، رمزاً لعملٍ أنقذَ ولا زالَ يُنقذُ الآلاف من الأرواح
من ناحيةٍ أخرى فإنني لا أخفي عليكَ شعوري بخيبةِ الأملِ من الردودِ والتعقيباتِ التي تلقّيتَها من قُرّائِكَ الفلسطينيين، باستثناءِ تعقيبِ خليل الصايغ الذي بامكاني أن أتقبّلهُ إلى حدٍ ما، حيثُ أنهُم ظلّوا يرددون مراراً وتكراراً نفسَ النغمةِ التي تُظهرُ غرقَهُم في عقلية اللاجيءِ الضحيّة، مكرّرين الأفكارَ نفَسَها التي لا تخدمُ شيءاً سوى الدعايةَ الكاذبة التي ينشرونَها دائماً، فهُم يتحدّثونَ عن الاعترافِ بدولةِ إسرائيلَ إلا أنّهُم في الوقتِ نفسهِ يجدونَ مشكلةً في فكرةِ الصهيونّيّة، بالتالي وباعتقادي فإنهُم لم يتعلّموا أي شيءٍ جديدٍ من كتابكَ ولم يبدّلوا أو يغيّروا أي فكرةٍ من أفكارهم وآرائهم بعد قرائتهِم له
كذلكَ فقد كنتُ أعتقدُ أن شخصاً مثلَ السيد محمد دجاني بامكانهِ أن يجلبَ وجهةَ نظرٍ مُتزّنة ومعتدلةً إلى طاولة النقاش في خضمّ حديثهِ عنِ المُعتدلينَ والمتطرّفين، لكنه ما قامَ به فحقيقةً هو توجيهِ شيءٍ من النقدِ الذاتي للجانبِ الفلسطيني، فيما قام بالمساواةِ بين المتطرّفينَ الإسرائيليين والفلسطينيين مُتناسياً أن المُتطرّفين على الجانبِ العربيّ – خاصةً حركةَ حماس – يمتلكونَ القوّة فعليّاً ويقمعونَ وُيُرهبونَ الأصواتَ العربيّة المُعتدلةَ زاجّين بها في غياهب السجون. بالتالي عزيزي يوسي فإن الموازنةَ والمساواةَ بين أخلاقياتِ وقيمِ وسلوكيّاتِ الجانبينِ لن تخدِمَ أحداً في تشخيصِ المُشكلةِ الحقيقيّة في هذا الصراع
كذلكَ فقد كانَت نقطةُ البدايةِ التي دفعتكَ لتأليفِ هذا الكتابِ هو أنّكَ شخصٌ يهوديّ مُتديّنٍ، لكن في الوقتِ نفسهِ فإنني لا أؤمنُ بأن هذا الصراعَ يتمحورُ حول وجهةِ النظرِ التي ترى بها الإسلام، أي الديانةِ المسالمةِ المُتمثّلةَ بالفكرِ الصوفيّ الذي يبدو وكأنك تعرفُ العديدُ من متّبعيه. لكن من وجهةِ نظري فأنك أينما وجدتَ منطقةً تحت قبضةِ الجهاديين الأصوليين الإسلاميين فإنك بلا شكّ ستجدَ هناك مشكلة كبيرة
وبالنسبةِ للقاريءِ الأردني الذي عقّب على كتابك دونَ أن يُفصحَ عن هويّتهِ قائلاً ” أننا لم نرتكب أي جُرمٍ بحق اليهود” فهو لا زال غارقاً في دائرةِ الانكار، إذ إنّهُ يُنكرُ دورَ الفلسطينيين في مساندةِ النازيّةِ ومعاداةِ الساميّة آنذاك. باعتقادي فإن مثل هذا الشخصِ بحاجةٍ ماسّةٍ إلى درسٍ في التاريخ، درسٌ يُعرّفهُ عن معاداةِ الساميّة التي يُكنّها الإخوانُ المسلمونَ ، اضافةً إلى تعريفهِ بدور الُمفتي الحاج أمين الحسيني في مساندة النازيّة الألمانية خلال فترة الحرب العالمية الثانية
ختاماً، فإن انطباعيَ ووجهة نظري بشكلٍ عامٍ تتمثّلُ في وجودِ تباينٍ صريحٍ وواضحٍ في مواقفِ وجهودِ الجانبينِ فيما يخص الحوار وتحقيقَ السلام، إذا يحاولُ الجانبُ اليهوديّ جاهِداً الوصولَ إلى الجانبِ العربيّ وتفهّمَهُ، فيما الجانبُ العربيّ واقفٌ مكانهُ دونَ أي جهدٍ أو حراك يُذكرُ من أجل الوصول إلى الجانبِ اليهوديّ وتفهّمه. إنني أتفهّمُ الأسبابَ الواقفةَ خلفَ هذا الجمودِ العربيّ في سبيل الحوار وتحقيق السلام، فهنالك ثقافةُ الشرفِ والعار التي تهيمنُ على العالم العربيّ، اضافة إلى ثقافة العُنفِ والضغطِ الذي يمارسهُ الأٌقرانُ على بعضهِم البعض في المجتمعاتِ العربيّة رفضاً لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، أضف إلى ذلك انعدامَ ثقافة الديمقراطية من تلكَ المُجتمعات، بالتالي فإن ما يُمكنني قولهُ هُنا هو أنه يوجدُ أمامَنا دربٌ طويل وشاقّ جداً في سبيل تحقيق هذا السلام المنشود
مع أطيب التحيات
لِن يوليوس
————————————————————————————————————-
الكاتبةُ والأديبةُ لِن يوليوس هي صاحبةُ العملِ الأدبي “مُقتلعٌ من جذورهِ”، والذي يتحدّثُ عن الظلمِ والاضطهادِ الذي تعرّضَ له يهودُ العراقِ قُبيلَ وبعد قيامِ دولةِ إسرائيل، موضّحةً من خلالهِ كيف اندثرَت الحضارةِ اليهوديّة التي امتدّت في العراقِ لثلاثةِ آلافِ عامٍ واندثرت في لحظات