جاري

بداية أخاطبك باعتبارك مواطنا يهوديا مثقفا وليس سياسيا أو عسكريا أو فقيها دينيا أو مؤرخا منحازا لروايتك ومن ثم لن أخوض فيما ارتكبته الألية العسكرية قبل وبعد تأسيس دولتك وإعلانها عام 1948، لأن ما جرى في تلك المرحلة جرح غائر يصعب علاجه خاصة وأن تلك الألة العسكرية لا تزال تعمل بفخر وغرور منقطعي النظير. وما سأذكره هنا مجرد ملاحظات على هامش كتابك الذي قرأته انطلاقا من حقك الإنساني عليّ في التعرف على رؤاك وأفكارك وحقي على نفسي في الاطلاع على رؤية وفكر الآخر خاصة وأن هذا الآخر ديانته سماوية وأنبياؤه محل حب وتقدير واحترام وتبجيل في الديانة الإسلامية. ـ لماذا لم تقدم نفسك كأديب أولا؟ وكيف لأديب مبدع أن يقدم نفسه بـ “متدين” أي أدب يكتبه الـ “المتدين”؟ ولماذا لم تكتب رسائلك بروح الأديب المتحرر من عباءة الدين والمتماس مع الواقع على كلا الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي؟ إذ لم ينتج المتدينون لا في الإسلام ولا اليهودية ولا المسيحية أدبا برأيي. الأديب أكثر تحررا ومن ثم قدرة على كشف هويته الإنسانية والتعبير عن قضاياه الباحثة عن التعايش السلمي مع الآخر

أوافقك وأدعم معك خيار حل الدولتين كوننا نعيش أمرا واقعا مفروض علينا ولا سبيل لتغييره ـ بالتأكيد هناك قواسم مشتركة بين اليهود والمسلمين فيما يخص الذات الإلهية وإدانة كل ما يخص قضية ازدراء الأديان. ـ اعتزازك بالديانة اليهودية واعتزازي بديانتي الإسلامية لا يعني أن تغفل أو أغفل أن الأمور ليست جيدة على الطرفين، فكما أن هناك أصولية إسلامية هناك أصولية يهودية، وكلا الأصوليتين تنتجان تشددا وتطرفا وإرهابا

فيما يتعلق بـ “عمنون بوميرانتز” وحرقه حيا، فهذا مرفوض قطعا دينيا وأخلاقيا وإنسانيا وفقا لتعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية، كما أنه مرفوض إنسانيا وأخلاقيا وإنسانيا ودينيا في اليهودية مثلا قتل طفل مذعور بين أحضان أو هدم بيت وإلقاء أهله بالشارع أو حرق حقول وهكذا

خطابك “إنسان مؤمن يخاطب إنسانا مؤمنا آخر” يصعب تقبله لدى المثقفين المتحررين من عباءة الدين أو العلمانيين، قد يصلح هذه الخطاب للعامة. ـ لا أظن أن رؤيتك حول “تجاهل مسألة عمق الالتزامات والواجبات المتأصلة في الديانات على كلا طرفي الصراع” موفقة، إذ أن المسلم يقبل اليهودي والمسيحي ويتعايش معهما على مدار التاريخ وحتى إعلان الدولة الإسرائيلية وبدء آلة القتل والتجهير والاستيلاء على أراضي الناس وبيوتهم

الدين لم يكن عائقا في فرض التعايش السلمي، عاش اليهود في كل البلدان العربية تقريبا بمعابدهم وصلواتهم وأعمالهم عيشا كريما في الوقت الذي كانوا يطاردون في الغرب وتقام لهم المحارق. ـ سؤالك “لماذا نجادل بعضنا البعض حول قضية من منا يملك هذه الأرض طالما أن الأرض ستمتلكنا جميعا في نهاية المطاف؟” سؤال جوهري أؤمن به، لكنه سؤال منبري يصلح الشيخ جامع أو قس كنيسة أو خاخام يهودي؟ لكنه لا يصلح لإقناع المثقف الواعي بما يجري على الأرض على الجانبين

قولك “الرواية الفلسطينية” غير موفق، فالرواية هي “رواية عربية إسلامية” تخص العالم العربي والإسلامي وفلسطين والفلسطينيين جزءا لا يتجزأ من هذا العالم. ـ عليك مراجعة وثائق وأرشيفات الدولة الإسرائيلية والدولة البريطانية والأمريكية للاطلاع على ما جرى في مباحثات أوسلو، وهل جرى تنفيذه، وكذلك خطة السلام 2008 وعليك مراجعة تاريخ تأسيس الدولة الإسرائيلية وتعرض هذه المراجعة على ما قام به كلا الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، ثم لماذا نبتعد عن المبادرة الموقعة من جميع الدول العربية، المبادرة العربية

الخلط بين تصوير اليهودية على أنها الحركة الصهيونية خطأ كبير، اليهودية ديانة لا يمكن لمسلم أو مسيحي أن ينفي وجودها وحق أبنائها في الوجود على هذه الأرض أو تلك، لكن الحركة الصهيونية ومنتسبوها محل كراهية وعداء إذا يحمل المسلم هذه الحركة مسئولية الدمار الحادث في علاقة اليهودي بالمسلم. وشخصيا أعتبرها حركة أو جماعة استخدمت الدين لبناء دولة كما تسعى الحركات والجماعات الإسلامية وعلى رأسهم جماعة الاخوان المسلمين لبناء دولة الخلافة، لا فارق بين الاثنين فيما فعلا من أجل خدمة فكرتهما وإن كانت الأولى نجحت فمحاولات الثانية لم تتوقف

تقول “اعتبر وجودي هنا على هذه الأرض جزءا من عودة سكان البلاد الأصليين الذين تم اجتثاثهم منها سابقا إلى ديارهم” وتقول “أرى وجودك على هذه الأرض جزءا لا يتجزأ من وجود الأرض نفسها”.. إذن كلانا صاحب الأرض .. كم مضى على خروجك من هذه الأرض؟ وكم مضى على بقائي فيها؟ ولماذا لم تفق من غفلتك إلا بعد هذه المئات من السنين؟ وماذا لو أتاحت لك المسيحية الغربية البقاء في عالمها هل كنت ستستيقظ من غفلتك وتتذكر أرضك وتعود إليها؟ أم أنك وجدت نفسك محاصرا بتاريخ من عداء الغربيين يتصاعد ومن ثم ولدت الفكرة؟ قل لي كيف تعاملون اليهود العرب والشرقيين وإلى أي مدى تغير سلوككم أنتم القادمون من الغرب معهم؟ هؤلاء اليهود العرب والشرقيين كانوا محل احترام وتقدير ومودة في بلدانهم لكن في الدولة التي أنشأتموها لم يكن لهم ذلك؟ وحتى الآن يعاملون بعنصرية مقيتة

ردا على تساؤلاتك “ماذا عنك كيف تراني؟ ماذا تعتبرني؟ ووووو” أقول لك أنك عدت حاملا للسلاح لا حاملا للسلام والعيش المشترك، قتلت وشردت وهجرت، لم تعد لتعيش، لم تعد لترسخ لدولة قوامها العيش المشترك بين الإسلام واليهودية والمسيحية، يتشارك الجميع في بنائها مفتخرا بتلاقي الديانات السماوية جميعها تحت سقف السلام والعيش المشترك الكريم. لا يمكن لمسلم أن ينفي حقك في العيش على الأرض ويحترم ويقدر مقدساتك بها وأداءك لشعائرك الدينية آمنا مطمئنا

دخول الدين يعمل الخلاف ويؤدي بأي مساحات مشتركة إلى الصدام آجلا أو عاجلا، دعك من شيوخ السلطان، نحن نتكلم عن الشعوب، لذا البعد عن الدين والعمل على تقارب الشعوب من مساحة الأدب والفنون والأفكار والرؤى الثقافية والتنويرية هي الأسلم لأنها تنطلق جميعها من الإنسان، الدين لا يسمح ولن يسمح بمثل هذه المساحة الشاسعة التي يحققها الآداب والفنون

أضرب لك مثلا عندما عالجت هوليودد قضية محارق الهولوكوست في أفلام هل تستطيع أن تحصى حجم التأثير، تأثير  لا يمكن حصره وتعاطف عظيم لا يمكن انكاره، هناك أفلام تبكيك حتى لو أن حجر، أيضا أعمال كافكا وغيرهم من الروائيين والمفكرين اليهود

لكن التقارب بالدين لن يحقق شيئا سوى المزيد من الفجوات وتمسك كل منا بروايته، هو سيتمسك برواية التوارة وأنا سأتمسك برواية القرآن وآخر برواية الانجيل.. للتعايش والتقارب لابد من المساحة الإنسانية التي لا فيها تكفير ولا طعن في رواية وهكذا


محمد. ح من مصر

30/9/2020