17/12/2020

عزيزي يوسي

أكتب إليك وكلي فرح بمناسبة إعلان استئناف العلاقات الديبلوماسية بين إسرائيل والمغرب. لقد دام انتظارنا لهذه اللحظة طويلا جدا، حيث كنا دائما نتوقع من المغرب السبق إليها قبل سائر الدول العربية نظراً لارتباطه التاريخي باليهود، ولكون المكون اليهودي رافداً من روافد الهوية المغربية طبقا لدستور 2011

فرحي أيضا يتضمن حملات التطبيع التي تجري حاليا في الشرق الأوسط وخارجه، والتي سبقتنا إليها الإمارات والبحرين وغيرها. لكن رغم ذلك، فإن تطبيع العلاقات بين إسرائيل وأعدائها السابقين ليس وحده كافيا، حيث لا يزال أمامنا كداعمين للسلام الكثير من المجهود لبذله لأجل إرساء ثقافة تقبل إسرائيل ضمن عموم الشعب العربي الذي يجهل تماماً تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وحيثياته. وأظن أنه هنا خاصة يأتي دور كتابك القيم “رسائل إلى جاري الفلسطيني” لتعريف من يجهل الصراع به

إن كتابك سابقةٌ جريئة من نوعها، حيث لم يكتب أي إسرائيلي لعموم العرب مباشرةً من قبل، ولا فلسطينيّ أو عربيّ أو أي حامل للرأي المخالف مباشرةً للعموم الإسرائيلي. وإن ما يزيد كتابك تميزا هو الصبغة العاطفية التي يطغى عليها خطابك فيه، حيث لم تلبث جاهداً الاستناد إلى المشتركات الإنسانية والدينية بين المسلمين واليهود، وهو ما قد ينتقده البعض بفعل أنه مغالطة تسعى لاستغلال عاطفة القارئ، إلا أنني شخصيا أراها ضرورة ملحّة في هذا السياق ذي الطبيعة المتوترة والمتعصبة إذ لا يمكن مخاطبة شخص متعصّب وغاضب، يلزم تهدئته أولا. لكن على الجانب الآخر، فإنني لا أتفق مع فكرة حشو الدين في الصراع واعتماده أساساً للصراع، إذ أنني كشخص ينتمي لمجتمع مهووس بالدين أرى أن سبب خلاف المسلمين مع قيام الدين هو أدلجة الصراع وحصره في السياق الديني فحسب.أنا واثق أنه هناك أكثر في الصراع من الدين نفسه

أتفهم جيدا كيف أن الدين مرتبط بالقصة الإسرائيلية أكثر من الفلسطينية – ويتجلى ذلك في مفهوم الأمة اليهودية، وهو ما شرحته في كتابك بشكل مبسط رغم تعقيد هذا المفهوم وغرابته، حيث أن المكون الأساسي للهوية اليهودية هو الدين اليهودي. أقتبس هنا شرحك الجميل والمتواضع له في الرسالة الثالثة: “هذه البساطة التي اتصف بها شعب إسرائيل كأمة من العبيد الذين تم إعتاقهم كان إلى درجة ما أحد الأسباب التي جعلتهم شعباً مختاراً. بمعنىً آخر، لم يتم اختيار اليهود لكونهم مميزين، بل لكونهم غير مميزين بالفطرة.

بكلمات أخرى، كان اليهود مجرد عبيد منسييين إلى أن وحدتهم الديانة اليهودية وصنعت لهم هوية، ولهذا السبب بالتحديد لا يمكن فصل الدين عن الهوية اليهودية، خلافاً للهوية الفلسطينية – وغيرها من الهويات الشرق أوسطية، التي لم تتأسس بشكل جذري إلا على يد الانتداب البريطاني بعد سقوط الدولة العثمانية. فالساكنة الشرق أوسطية ليست بأي شكل مرتبطة بالشعوب القديمة التي سكنت المنطقة ولا تعتمد ذلك التاريخ السحيق كهوية، إذ سادت القومجية العربية في تلك المنطقة وأدت لتغيير رؤية الشعوب لذاتهم وتاريخهم. أعتبر ذلك شخصيّا نوعا من السلب الثقافي والحضاري

عادةً ما يتم خلط مفهوم الأمة اليهودية بالأصولية الدينية ومقارنته بمشروع الإسلام السياسي، وهي المغالطة التي وقع فيها العديد من الناس الذين ردّوا على كتابك، إسقاطاً لما مروا به على غيرهم. وهو ما يجب تصحيحه من الرأي العام العربي لأن العامة من الناس يجهلون هذا المفهوم كما جهلته أنا سابقا، قبل أن أتعرف على كتابك

لعب كتابك دوراً مهما في تصحيح العديد من الشائعات المشيطنة لليهود، حيث ما لبث الإسلاميون طيلة سنين الصراع يتاجرون بالقضية الفلسطينية لتحقيق مكاسبهم السياسية. وطبعا كي تنجح استراتيجيتهم هذه ويستفيدوا منها في حملاتهم الانتخابية احتاجوا بالضرورة لاعتماد مختلف تقنيات غسل الأدمغة ــ لجؤوا للمنابر والمدارس والجماعات الدعوية، والمؤسسات الجامعية. استقطبوا دعماً كبيراً للغاية، ولم يكن هناك للأجهزة العليا للدولة ما يمكنها فعله لردع ذلك رغم علافتها الطيبة بإسرائيل، إذ أن الإسلاميين دائما ما كانوا كتلة ضغط مهمة في الدولة. لذلك فالاتفاق الاسرائيلي-المغربي الأخير لاستئناف العلاقات قد كان غريبا نوعا ما داخلياً، فقد كنا نحلم بتحقيقه لكن نخاف من بطش الإسلاميين في الوقت نفسه، أولئك الذين لا حجة ولا منطق لهم سوى السيف

بالرغم من ذلك فإن استراتيجية جلالة الملك لإصلاح الساحة السياسية والشؤون الدينية أثبتت نجاعتها في مقاومة المد السلفي عبر سنين حكمه، حيث أصبح في عهده تشديد ومراقبة دائمان على المساجد، وتحديد للخطب من قبل وزارة الشؤون الإسلامية، إضافة إلى إغلاقها مباشرة بعد انتهاء الصلاة، ورفض للملتحين في مسالك الشرطة والجيش والدرك. دعم كذلك الملك المكون الصوفي المحلي عبر ميزانية سنوية ضخمة لترميم الأضرحة والمزارات والزوايا وباقي الأماكن ذات الطابع الصوفي. كما تم اعتماد إسلام “وسطي” في المناهج الدراسية.  كل هذا جعل من المغرب مصدّرا للأئمة نحو افريقيا وأوروبا، بفضل برنامج تكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات الدينيين، وعاد بإشادة دولية لتقدم المغرب في مجال مكافحة الإرهاب

ليس جديدا على سكان هذه المنطقة بالتحديد الانفصال عن السلطة الدينية المشرقية، إذ تم اغتيال عقبة بن نافع في طريق عودته بعد أن اجتاح المغرب لأول مرة. كما أقام الملك ميسرة المطغري أول ثورة ناجحة ضد الدولة الأموية معلنا بذلك قيام المملكة البورغواطية في شمال المغرب بعد عدم تفاهمها مع باقي ثوريي المغرب

قبل ذلك المد الإسلامي الأموي كان المغرب أرضا لليهودية والوثنية بشكل رئيسي، وهو المكون الذي يعارض الراديكاليون انتماءه للهوية المغربية اليوم بعد مقتضيات الدستور الجديد كما عارضوا سابقا الرافد الأمازيغي، إذ دائما ما يسعون لإقصاء الآخر واستبدال التعددية بالأصولية الدينية لأنه فيها فقط تكمن قوتهم وخطاباتهم الاستعراضية. بنشرك للكتاب فإنك توفر مصدرا مفتوحا للمعلومات وروايةً تاريخية يصعب دحضها، وإن حدث وانتشرت الرسائل -إضافة إلى كتاب مقتلع من جذوره- على مدىً واسع فإنها ستكون انتكاسة الخطاب الإسلاموي المعادي للسامية

رغم أنني إنسان غير متديّن إلا أنني يجب أن أقر بأنه بمجرد أن يستوعب المرء مفهوم الأمة اليهودية المعقّد، فإن الرسالة الثانية، الحاجة والحنين، ستبدو له كنز من الكلمات في وجهة نظري، فإضافة إلى جماليتها تقدم لنا واحدة من أهم دعائم انتماء اليهود إلى أرض إسرائيل، وذلك عبر النص الديني بحد ذاته – باعتبار أن النص الديني بحد ذاته أحد ركائز الهوية اليهودية. قلت في هذا الصدد: ” لقد حملَ اليهودُ أرضَ إسرائيل في قلوبهِم في خضمّ ترحالهِم في بلدانِ الشتات، ، حملوا معهُم أوقاتَ كلّ موسمٍ من مواسمِ زرعِها ، حملوا قصَصها و نُبوءاتِها ، فيما تناقشوا وتجادلوا في البيوتِ التي درسوا فيها الديانةَ اليهودية بخصوصِ قوانين شميتا – قوانينُ شميتا تعبّرُ عن أمرٍ ألهي يقضي بعدمِ زراعةِ أرضِ إسرائيلَ وتركِها بوراً مرةً كلّ سبعةِ سنواتٍ لتستريح  وتستعيدَ نُضرتَها-. وعلى الرغم من وجودِ اليهودِ في المنفى إلا أنّهُم كانوا يعلَمونَ تماماً الأوقاتَ التي تُزرعُ وتُحصدُ فيها المزروعاتُ وكأنهُم فلاّحو تلكَ الأرضِ الذينَ لم يتوقّفوا أبداً عن زراعتِها أو حصادِها  (…) ردّدنا هذه الآيةَ من سفر المزامير : ” إِنْ نَسِيتُكِ يَا أُورُشَلِيمُ، تَنْسَى يَمِينِي ” ، ثمّ كَسَرنا بعدَها كأساً زجاجياً مُستذكرينَ خرابَ الهيكلِ في أجملِ لحظة من لحظاتِ حياتِنا.

ختاما واختصاراً وتفاديا لتكرار ما جاء من قبل في ردود الآخرين حتى لا يكون ردي مملاًّ – فإن قبولك بحل الدولتين هو موقف محايد وفي عين الصواب، إذ أنه وكما أشرتَ في كتابك لا حل غير الاعتراف المتبادل بالآخر، والجلوس معا على طاولة المفاوضات. وهو ما يدعمه الموقف الدولي، بما في ذلك بلدي المغرب منذ بداية الصراع. يجب على الراديكاليين من كلا الجانبين تقبل أمر الواقع، فلن يرحل الفلسطينيون ولا اليهود. لا يوجد أبداً أي سبب مقنع يجعلك كيهودي من الطرف المنتصر تتنازل، ومع ذلك فقد غَلب منطقك غزائزك القَبَليّة وانتماءاتك لشعبك، ولا يسعني سوى أن أتقدم لشخصك المحترم بأحر تحياتي على موقفك النبيل هذا

فيما يخص صفقة القرن فإني معارضٌ لها كونها لا تُعطي الفلسطينيين كلمةً في الأمر، كونها نفس منطق “خذه أو اتركه” الذي تعاملت به معكم المبادرة العربية للسلام، إضافة إلى كونها لا تمنحهم سيادة كاملة على أراضيهم بحيث لن يكون لهم جيشهم الخاص ومؤسساتهم الخاصة ـــ هذا ما يُعرف بنظام الحماية. أرجو أن تشارك معي رأيك بخصوص هذا الموضوع

حاولت جاهداً ألا يكون ردّي هذا عبارة عن أسطوانة مملّة متكرّرة سئمتَ منها. لو كان ذلك الحال مع ردي فمن فضلك تقبل اعتذاري

أترقّب استكمال هذه المحادثة الشيقة معك لو أخذت منحى جديداً غير الذي اعتدنا عليه

محمد.س من الدار البيضاء – المغرب