لِقراءةِ تعقيبِ الدكتورة إلهام مانع على كتاب “رسائلٌ إلى جاريَ الفلسطيني” تفضّلوا بزيارة هذا الرابط

 

عزيزتي إلهام

 بداية فإنني أعتذر جداً عن تأخّري في الردّ على رسالتكِ الرائعة، هذه الرسالةُ التي قمتُ بقراءتها عدّةَ مرّاتٍ وفي كلّ مرةٍ أقرؤُها كنتُ أشعرُ وكأنني أتعلّمُ شيئاً جديداً لأوّلِ مرّة

حقيقةً فإن ما ذكرتهِ في بدايةِ رسالتكِ قد حَدثَ فعلاً، فلطالما تحدّثَ معي أصدقائي وزملائي الإسرائيليون وغيرُ الإسرائيليينَ بهذا الخصوص متسائلينَ لماذا أضيّعُ وقتي “معهُم”، وبأنهُم يكرهونَنا ولن يقبلوا بوجودِنا بأي شكلٍ من الأشكال، مُدّعينَ بأن ما أقومُ به هو أمرٌ مُضلّلٌ لا يُساهمُ إلا في إضعافِنا وإعادتِنا الى تلكَ الأيّامِ المأساويّةِ التي شهدناها عقبَ اتفاقيّة أوسلو عندما كنا نعتقدُ بكل سذاجةٍ أن بإمكانِنا أن نحقّقَ سلاماً مع ياسر عرفات في الوقتِ الذي كانت تتوالى فيه انفجاراتُ الباصاتِ في الشوارع الإسرائيليّة

وأنا بطبيعةِ الحالِ لا أنكرُ أنني أشاركهُم هذهِ المخاوِفَ على الإطلاق. لقد تحدّثتُ عبر كتابي عن الصدمةِ التي عشناها في خضمّ الانتفاضة الثانيّة وكيفَ أثَرَت – ولا زالت تؤثّرُ-  بِشدّةٍ في نفسيّة المُجتمعِ الإسرائيليّ. لقد كنا على وشكِ إزالةِ مفهومِ الأماكن العامّة من حياتِنا في إسرائيل تجنُباً لِلهجماتِ الإرهابيّة، لقد كنا – لفترةٍ زمنيّةٍ معيّنةٍ – أمةً تُغلقُ الأبوابَ على نفسِها من شدّةِ الخوفَ والذعرَ. بالتالي فإنني أتفهّمُ هذهِ المخاوفَ التي تسيطرُ على أصدقائيَ وزملائيَ وإخوتي الإسرائيليين لأنّ المأساةَ الحقيقيّة تكمنُ في إنّ كلمةَ “سلام” أصبحَت تعني الخوفَ من أن يتمّ خداعُك وتضليلُكَ من قبلِ الطرفِ الآخَر

إنّ السلامَ هو أحدُ أهم وأسمى القيمِ والأخلاقيّاتِ في الديانةِ اليهوديّةِ، وخلال صلواتِنا في كُلّ يومِ السبتِ في كُنُسنِا فإننا نُردّدُ  هذهِ الآيةَ من سِفرِ الأمثال التي تصفُ التوراةَ قائلينَ:” وكلُّ مسالكِهِا سلامٌ”، لكن شعورَنا الدائمَ بالشكّ والريبةِ هو نتيجةٌ طبيعيّة لما فعلهُ هذا الصراعُ بنا، هذا الصراعُ الذي يبدو وكأنهُ صراعٌ أبديّ ميؤوسٌ منهُ

بالتالي فإنّ قراءةَ رسالةٍ كرسالتكِ أيتها الصديقة العزيزةُ – نعم، نحنُ أصدقاءٌ رغم أننا لم نلتقِ بعضنا البعضَ فِعليّاً –  ومعرفةَ بأنك خُضتِ تجرِبةً مماثلةً لتجرُبتي – ورُبّما أسوَء- جعلّني أشعرُ بأنني لستُ وحيداً، وهذا أمرٌ كان بمثابةِ هديّةٍ جميلةٍ عثرتُ عليها بين سطورِ رسالتِكِ، لكن هذه لم تكُن الهديّة الوحيدة، فالهديّةُ الأخرى كانَت تأييدكِ لشرعيّةِ وجودِ دولةِ إسرائيلَ، خاصةً وأن اليهودَ بحاجةٍ ماسّةٍ لسماعِ مثلِ هذه الكلماتِ من جيرانهِم

في الواقعِ فإن ما تعرَضَ له اليهودُ من حربٍ وحصارٍ متواصلَينِ مباشرةً عَقبَ الهولوكوست يعدٌ أحدَ أكثر القضايا إيلاماً
في نفوسِنا، خاصّة وأنه كلّفنا ثمناً باهِظاً لم يكُن هنالكَ مَفرٌ من دفعِه، وبالنسبةِ لصعودِ اليمينِ الإسرائيليّ لسدّة الحُكم فهوَ باعتقادي نتيجةٌ لتعرّضنا لأحداثٍ مُستمرّة تُهدّدُ وجودَنا بشكلٍ مُتواصل، ونحنُ في دولةِ إسرائيلَ قادرون على الدفاع عن أنفُسِنا بكلّ تأكيد، لكنّ كونِنا في موضعِ دفاعٍ مُستمرٍعن شرعيّةِ وجودِنا هُنا وحقّنا في الوجودِ – ولكِ أن تُدركي حجمَ كُرهيَ لهذه الكلمات! – هو أمرٌ يتركُ عواقبَ نفسيّةً مؤلمةً في نفوسِنا

لكنني أتفق معك في هذه النقطةِ التي تفضّلتِ بها، وهي أنهُ يتوجّبُ على إسرائيلَ أني تُنهي احتلالَها للفلسطينيينَ حتى بالرغمِ من الآلامِ التي تركَها هذا الصراعُ في نفوسِنا وانعدامِ الثقةِ بينَ الجانبين، وهو بالمناسبةِ أمرٌ يصبٌ في مصلحةِ إسرائيلَ بقدرِ ما يصبّ في مصلحةِ الفلسطينيين. كذلكَ فإن التعاملَ مع المواطنينَ الفلسطينيين في المُجتمعِ الإسرائيليّ يشكّلُ الاختبارَ الحقيقيّ والأصعبَ أمام الإسرائيليين، وما أخشاه صراحةً هو أننا في الواقعِ نتراجعُ نحو الخلفِ بدلَ أن نمضي قدُماً للأمام، الأمرُ الذي من شأنهِ أن يتركَ أثراً سلبياً على ما أحرزناهُ من تقدّمٍ خلال العقودِ الماضية.

من ناحيةٍ أخرى فإن ما يمنحني حافزاً للمضي قدُماً هو افصاحُ نسبةٍ لا يُستهانُ بها من الفلسطينيين وبصريحِ العبارةِ بأن لديهِم رغبةً بأن يكونوا جُزءاً من المُجتمعِ الإسرائيليّ، الأمرُ الذي يعزّزُ من الحاجةِ لأن يقومَ اليهودُ بمدّ أيديهِم  للمواطنين العربِ حتى نمنحَهُم الشعورَ بأننا نحنُ أيضاً نتقبّلهُم كجزءٍ ومُكوّنٍ من مكوّناتِ المُجتمعِ الإسرائيليّ

عزيزتي إلهام، لقد تحدّثتِ عبرَ رِسالتكِ عن التحدّياتِ والمصاعب التي واجهَها يهودَ اليَمن خلالَ سنواتهِم الأولى من عُمرِ إسرائيل. حقيقةً عندما جاءَ يهودُ اليمنِ إلى أرضِ إسرائيلَ – كونَهُم يمثّلون أولى الهجراتِ اليهوديّةِ الكبيرة إبان قيام دولةِ إسرائيل – فإنهُم فعلياً جاؤوا الى أرضٍ مُفلسةٍ يسودُها نمطُ حياةٍ قاسٍ ظهرَ نتيجةً لحربٍ خاضَها اليهودُ من أجل البقاء. لقد تعرّضَ يهودُ اليمنِ لتمييزٍ عُنصريّ آنذاك، كما أُجبروا على النزوحِ من مناطقِ سُكناهُم أيضاً، لكن الأجيالَ الثلاثة اللاحقةَ تُشكلِ جزءاً هامًا لا يقلِ أهميّة عن أي مكّونٍ آخر من مكوّنات المُجتمع الإسرائيليّ والثقافةِ الإسرائيلية، وهذا أمرٌ يمنحني الأملَ بأن يحدثَ الأمرُ نفسهُ مع المواطنين الإسرائيليينَ العربِ، رغم أن التحدّيات أمامَ المواطنين العربِ – بدونِ أدنى شكٍ – تختلفُ جذريّاً عن التحدّياتِ التي مثّلَت عائقاً أمام اندماجِ المُجتمعاتِ اليهوديّة مُختلفةِ الأصولِ في الدولةِ اليهوديّة

أخيراً وليسَ آخراً، أودُّ أن أشكركِ مُجدداً على كونكِ شريكاً في العملِ الدؤوبِ وصُنعِ الأملِ وإثباتِ النوايا الحَسنة. إنني أثمّنُ عالياً تواصلي معكِ وأتطلّعُ بكلّ شغفٍ للقائكِ واستقبالكِ في مدينةِ القُدسِ

مع أطيبِ التحيّات

يوسي كلاين هاليفي