حقيقةً ، لا يُمكنني إخفاءُ ما اختلجني من مشاعر عقبِ قراءة هذا الكتاب ، حيثُ أظهرتُ لنفسيَ حقيقتها رغم وجودِ العديد من الأمور التي أرغبُ بالتعبير عنها ، أشياءُ من شأنها أن تعلمني العديد من القضايا التي لا زلت أجهلها ، لكني بنهاية المطاف قررتُ أن أطلقَ العنانَ لجوارحي لِتظهر كما هيَ بعد قراءةِ هذا الكتاب تماشياً مع روح هذا الكتاب الذي شعرت أيضا بأنه مؤلّفهُ قد أطلقَ العنانَ لجوارحهِ عندما ألّفهُ

كم كنتُ متلهفاً لقراءةِ مثل هذا الكتاب الذي يمثل نداءاً عاطفيّاً للطرفِ الآخر، أنّهُ كتابٌ يتطرّقُ للمعضلاتِ الأخلاقيّة المحيطة بهذا الصراع بطريقة تدعونا لفهمها بمنتهى العمق

حقيقة، لطالما اعتقدتُ بأن فكرة إسرائيل كانت تتمحورُ حول إنقاذ اليهودية أكثر من كونها تتمحورُ حول إنقاذ الشعب اليهودي. كذلكَ فإن عقيدتكَ لا تختلفُ كثيراً عن عقيدتي في كونها تعتمدُ على أتباعِها من أجل ديمومتها ، كما ولن يُكتبَ لها أن تتطور دون وجود أتباعٍ ذوي عقيدةٍ صلبةٍ مُلتزمةٍ بتعاليم تلكَ العقيدة بكلّ ما تحملهُ من التزاماتٍ ثقافيّة  وتشريعيّة، كذلكَ فإن الحفاظ على مختلف الأسس والقواعد والتشريعات لتلكَ العقيدة يتطلّبُ وجودَ ظروف خاصة يتم مراعاتها ومراقبتُها من قبل الدولة نفسِها ، لا بهدفِ مراقبة تطبيق تلك التشريعات فحسب ، بل من أجل الحفاظ عليها وحمايتها من الاندثار

وهو أمرٌ أستطيع تفهّمهُ تماماً لأنهُ يتماشى مع طريقة فهمي لعقيدتي الإسلامية. بمعنى آخر ، لكي لا يتحوّلَ الدينُ إلى عقيدة قاسية على أبنائها فإنه يتوجّبُ على تلكَ العقيدة أن تتطور في سياق مجتمع أو دولة قومية أو أمة بحدّ ذاتِها، وكجُزءٍ من ثقافتي المسيحية الخاصة بي كمسلم ، فإني أتقبل فكرة أن وجود هذا المجتمع هو شرط أساسي لتحقيق رسالة الفرد الروحية وواجباته الدينية على هذه الأرض

، الدينُ هو أسلوبٌ للحياة التي يجب دعمها من خلال تهيئة بيئة سياسية واجتماعية تعزز مبادئها وتتوافقُ مع لغتها وطقوسها وأعرافها الاجتماعية. إنني أؤمنُ بهذا المبدأ كانسانٍ مُسلم ، لكنني أؤمنُ أيضًا بأن المسلمين لا يحتكرونَ تلكَ التوصية الإلهية على أنفُسهم

إنّ فكرةَ الدولةِ الدينيّة والعلمانيّة في الوقتِ نفسه ، وفكرةَ الدولةِ اليهوديّة والديمقراطيّة في الوقتِ نفسه ، هيَ أفكار متناقضةٌ تتصاعدُ من خلالِ الطريقة التي وصفتها في كتابكَ على انها تناقضٌ أو تصاعدٌ للأكفار المتضادّة ، وهي أفكارٌ متناقضةٌ تشغلُ بالَ العالمِ بأسره في الوقتِ الحاليّ. على الرغم من أننا كمسلمين لدينا دولٌ ذاتُ غالبية مسلمة ، لكن ليس لدينا دولٌ إسلامية بمعنى الكلمة

ومن أحدِ المفارقاتِ في هذا الموضوعِ هو أنّ ما يمنعُ العالمَ العربيّ من التنازلِ عن بعضِ الأمور نابعٌ عن طريقةِ تفسيرنا الخاصّ كمسلمينَ ” للوعدِ الإلهيّ”. فالروايةُ التاريخيّة العربيّة والإسلاميّة هي روايةٌ نقومُ بموجبها ببناءِ مجتمع نموذجيّ ، فيما يحاولُ اليهود والمسيحيون العيشَ تحت ولايتنا في هذا المُجتمعِ بصفتهم الفئة التي يجبُ عليها أن تتقبّلَ هذا المصير الجماعي بكلّ صدرٍ رَحب

بالتالي لن تسمح أي اعتباراتٌ للعالم العربي بالتخلي عن “الصراع الفلسطيني” من أجل الوصولِ إلى حلّ فلسطيني ، لأن هذا القرارَ لا يتعلق بالفلسطينيين وحدَهُم ، بل هُناك اعتبارٌ لتلكَ الروايات القديمة وأسُسِها التي لا يمكنُ التخلّي عنها بأي شكلٍ من الأشكال. . شخصيّاً – لا أعتقد بأن العالم العربي يكترثُ حقّاً بمعاناةِ الفلسطينيين ، حيثُ تتصرفُ الحكوماتُ والأنظمةُ العربيّة تبعا لما تقتضيه أجنداتُها ومصالحُها الخاصة وهيَ حقيقةٌ واضحة كوضوحِ الشمس

ولهذا ، فإنني أرى في قيامكَ بمخاطبة الفلسطينيين مباشرةً أمراً عملياً وقراراً سليماً . إنني أرى في هذا الكتابِ والرسائلِ التي كتبتَها طرحاً ذا مغزىً ومعنىً كبير ، ففي نهاية المطاف سيتوَجّبُ على الفلسطينيين أن يفصلوا أنفسهم عن الرواية العالمية التي تسعى إلى تكريس مكانتهم كلاجئين بلا مأوى ، والسعي من أجل إحقاقِ حقوقهم كفلسطينيين عوضاً عن السعي وراء أمجاد عالميّة أخرى.

كذلكَ فإنني أؤمنُ بأنهُ من المهمّ جداً احترام الهويةِ الفلسطينية ومساعدةُ الفلسطينيينَ في توسيع نطاق تعريفها بطريقة يتمّ فيها تغييرُ عقليّة الضحيّة من تلكَ الهويّة  ، فالهويّة هي قضيّة عاطفيّة بحتة ، ، الهويّة تتمحورُ حولَ ما يختلجُنا من مشاعر ، لا حول الحقائق والوقائع. وإذا كان البقاءُ غريزةً بشريًةً مهمة ، فإن بقاءَ هويتنا لا يقلّ أهميّة عن البقاء من أجلها ، وهذا ما يحدّد فعليّاً مسار التاريخ الإنساني

 بالتالي فإن من الطبيعي نشوءُ مُشكلةٍ جديدةٍ ناتجةٍ عن تطوّرَ علاقةٍ بين الهوية من جهة ، و الصراع أو الصدمة التي يسببها الصراع من جهة أخرى ، تلكَ المشكلةُ ناتجةٌ عن كونها تخلق حاجة في اللا وعي لإدامة هذا الصراع كوسيلة لبقاء الفرد وبقاءِ هويّته، لكنها في هذه الحالةِ حالةٌ نفسيّة لا سياسيّة

، خاصةٌ وأن التاريخَ بالنسبةِ لنا يكونُ بمثابةٍ كتابٍ نتجاهلُ منه ما نشاء وننتقي من طيّاته ما نشاء بما يوافقُ توجّها وأفكارَنا ، خاصّة وأنه يصعبُ على الفردِ استيعابُ الماضي بكلّ تفاصيلهِ وأحداثه ، لكن يبقى السؤال هُنا : ما هو الجانبُ الذي نختارُ تسليطَ الضوء عليه ؟ وما هو الجانبُ الذي نرغبُ في تجاهلهِ من هذا التاريخ ؟ إن الفرق بين هذا الجانب وذاك كفيلٌ باشعال نار الحربِ أو ايقاد نورِ السلام حققةً ، فإن دعوتكَ ” باعترافِ بعضنا البعض بحق تقرير المصير ، بل وبحق كل جانب في تعريف ذلك الحق من منظورهِ الخاص “هو مبدأ أساسي أعتبرهُ غاية في الأهمية ، وهوَ مبدأ نأمل أن يصبح دافعًا وحافزاً لكلا الطرفين للمضي قدمًا

كذلكَ فإنني أرى رغبتكَ الصادقة في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي دونما القيام بما اسميته انتحاراً ، وهو أمرٌ يبدو جلياً في قلبِ رسائلكَ تلك. إن رغبتك تلكَ تمثّل معادلةً ليست بالسهلة على الإطلاق ، كما تتضمنُ القيام بقفزةٍ عقائديّة هامة من أجل الوصول اليها ،

أخيراً وليسَ آخراً ، إنني أتوجهُ اليكً بأحرّ التبريكاتِ على هذا العمل الرائع ، كما وأتقدمُ بجزيلِ الاعتذارِ عن أي قولٍ قد يكونُ نابعاً عن عدمِ كفاية علمي بما كتبته ، فأنا لا زلتُ بمثابة تلميذٍ لا زالَ يتعلّم أشياءَ جديدة كل يومٍ ويطمحُ مُستقبلاً إلى تعلّم المزيدِ من خلال خوضِ الكثير من النقاشاتِ والحواراتِ حول هذا الصراع

ّإنني متفائِلٌ بالنسبة للمستقبلِ ، كذلكَ فإنني أعتقدُ بإن بوصلة العالم بأسرهِ تتجّهُ نحو تحقيق العدالةِ والسلامِ في كل مكان ، وهذا هو الدربُ الوحيدُ الذي سيقودُنا جميعاً للسموّ الروحي كأفرادٍ ، فبقاؤنا وعيشُنا جميعاً كبشرٍ مع بعضنا البعض على هذه الأرض هو غايةُ من أسمى غاياتِ الله سبحانه وتعالى

 

مع أطيب وأرقّ التحيات
——————————————————————————————————————-
قاريءٌ لا يرغبُ بالإفصاح عن هويته