قراءة وتعليق في كتاب رسائل إلى جاري الفلسطيني

سمية, حاصلة على ماجستير في التاريخ و علم الاجتماع

قراءة خارجية
“رسائل إلى جاري الفلسطيني” هو كتاب متوسط الحجم، له شكل غاية في البساطة، بنظرة أولية تريح العين، و أول ما يشد نظرك هو غصن الزيتون الذي لا يرمز فقط إلى السلام، لكنه رمز للأرض المقدسة و شجرة الزيتون المباركة. ثم اللون الأزرق الذي خط به عنوان الكتاب بخط عريض و هو اللون الذي يعبر عن النقاء و الصفاء. مما أدى إلى أول احتمال ضمن توقعاتي أن الكاتب يريد البوح بكل شيء، يتوق إلى الصراحة و الوضوح بنوع من احترام للخصوصيات أو المقدسات المشتركة،

و هو ما ينم عنه استعمال رمز غصن الزيتون.
    نأتي إلى العنوان الذي ذكرناه سابقا، و أول ما أثار انتباهي هنا كلمة “رسائل” وليس رسالة، يبدو من هنا أنا الكاتب قد كتم منذ مدة ما يبوح به الآن، أو ربما قد دون هذه الرسائل و لم تسنح له الفرصة _لأسباب معينة_ أن يوجه هذه الرسائل إلى جاره. كما أن هذا يدل أيضا على الرغبة الملحة لكسر الصمت و  القطيعة  التي سادت طويلا مع جاره الفلسطيني.
   قبل تواجدنا أمام الرسالة الأولى من الكتاب، نمر بمقدمة صغيرة سميت “ملاحظة إلى القارئ”, هنا يريد الكاتب يوسي أن يكسر أي انطباع استباقي من قبل القارئ العربي خاصة ( أو المستعرب) من أن يمر إلى الرسائل مباشرة بفكرة مسبقة يغمرها التهكم و التهجم : “ياإلهي يهودي (إسرائيلي) يكتب إلى فلسطيني و يسميه جاري !”
   يوسي كلاين من خلال هذه الملاحظة يود أن يخبرنا أن ما جاء في الكتاب ليس مجرد عمل ارتجالي لهدف تجاري أو توجيه سياسي، بل جاء وليد برنامج تعليمي تثقيفي عنوانه “مبادرة القيادة المسلمة” دام خمس سنوات، هدف هذا البرنامج كما ورد في الملاحظة هو تثقيف الجيل الصاعد من قادة الشباب الأمريكي المسلم حول الديانة اليهودية و دولة إسرائيل، أشرف على هذه المبادرة كل من يوسي كلاين هاليفي برفقة الإمام عبد الله عنتلي، وقد وصفها بأنها مبادرة ناجحة. و كأنه يريد أن يخبرك يوسي كلاين هنا :” إنني قريب منك نوعا ما، ولدي أصدقاء مسلمون على أمل أن تصبح ياجاري صديقي أيضا”.
  

 في هذه الملاحظة يحاول الكاتب شرح الدافع من هذا الكتاب بكل هدوء، معبرا عن غايته بوضوح، بقوله:” …كما ويمثل هذا الكتاب محاولة مني لتوضيح و تفسير الرواية اليهودية و أهمية إسرائيل في الهوية اليهودية، كما و يستهدف هذا الكتاب القراء الفلسطينيين تحديدا، كونهم جيراني المقربون”. الفكرة تبدو واضحة، لكن و مع ذلك يصر يوسي كلاين على أهمية التواصل فهو لا يريد أن تواجه رسائله التجاهل، بل ينتظر ردودا عليها كيفما كانت المهم أنها تحافظ على شروط التواصل اللائق.

كما لا أنكر أن هذه الملاحظة التي تتصدر الكتاب قد قامت بدورها في تشجيعي على قراءته، أما الرسالة الأولى فجعلتني أنهمك تلقائيا في قراءة رسالة تلو الأخرى، حيث يتضمن 10 رسائل.
   أما عن انطباعي حول هذه الأجزاء (أو الرسائل) فهناك  رسالتين نالت حظا كبيرا من إعجابي وهما الرسالة الأولى بعنوان “الجدار الذي يفصل بيننا” ثم الرسالة السابعة “إسحاق و اسماعيل”، لأنها رسائل ذات فحوى تواصلي محض تتضمن مخاطبة سياسية و ثقافية و دينية و اجتماعية. أما الجزء الذي أثار امتعاضي كانت الرسالة التاسعة بعنوان “الناجون و الضحايا”  سأتطرق إليه لاحقا, إلا أن حديثي عن هذه الرسائل تحديدا لا يعني أن البقية غير ذات أهمية، بل كلها رسائل في غاية الأهمية بما تضمنته من معلومات كنت أجهلها 

 بعد هذه القراءة الخارجية سأفتتح عناوين استعرتها من مضامين الكتاب محاولة مني إبداء رأي  متواضع في المعرفة، حول بعض القضايا التي تناولها الكتاب, و تجدر الاشارة مني أن ما تعرضت له لا يلامس بشكل عام كل القضايا الموجودة بحذافرها، لكنني انتقيت بعضا منها ليس للتجاهل بل محاولة مني تحري الموضوعية و التزام حدود المعرفة, لهذا قسمت رأيي إلى تيمات رئيسية و هي كالآتي
 عقدة الجدار
 روايتين في رواية واحدة
 الانفصال المشترك – تنازل من أجل السلام
جرح في الذاكرة

أولا: عقدة الجدار

   يشكل الجدار الذي يفصل بين دولة إسرائيل و الدولة الفلسطينية حاجزا بين مجتمعين متناقضين، متفاوتين، و في نفس الوقت يضيق من طموحات كلا الشعبين و يجسد كذلك حدود عدم التقبل للآخر. لهذا فالبالرغم من مظهره العازل الذي يشوه منظر الانسجام الطبيعي، فهو يشكل إلى حد ما وسيلة لحفظ الأمان من الهجمات العنيفة، و بالرغم من كونه يحفظ سلامة الشخص الإسرائيلي يبقى مع ذلك على حد تعبير الكاتب   أمرا  مهينا له, و هو الشعور الذي ينبغي أن نتفهمه بحيث يعكس عدم القدرة على العيش في كيان مستقل بدون جدار للحماية، و كأنه كيان لا ينبغي أن يكون في الأصل.
  إلا أن الجدار الحقيقي يتمثل في الفكرة القائمة على تجاهل حق تأسيس كيان يضم اليهود و ينظم حياتهم، هذا التجاهل ليس من طرف الفلسطينيين فحسب بل أغلب أفراد دول العالم الإسلامي، و ربما حتى العالم المسيحي كان سيتبنى الفكرة نفسها “لولا حاجة في نفس يعقوب”، بالمقابل يواجه الكيان الإسرائيلي هذا التجاهل بالتجاهل و رد الصاع صاعين في المواجهات. الجدار الفعلي إذن هو تلك الفكرة المتحجرة التي يطبعها الشعور بالسمو عن الآخر و كثير من الجهل بالسندات التاريخية، و هو ما يشكل مصدرا للنزاع المستمر.

إنه أمر يبعث على الارتياح نوعا ما عند تلقي رأي إسرائيلي يعيش في صلب هذا الصراع و الانفصال، حيث يكن مشاعر الانفتاح و قابلية الاعتراف بالكيان الفلسطيني، و مخاطبته بواقعية رغبة في استمالته للمشاركة في هذا النقاش الذي طالما اعتبر نقاشا عقيما مفعما بالتجاهل و عدم التقبل.
  ها نحن الآن أمام رغبة ملحة من الطرف الإسرائيلي لتخطي هذا الجدار المعنوي و النفسي و المادي، للتقرب أكثر من الجار الفلسطيني بهدف الإصغاء و التفهم المتبادل للروايتين الشرعيتين للجانب الفلسطيني و الإسرائيلي, و عليه إنني أؤيد إلى حد بعيد ما أشار إليه الكاتب في ص. 16:” إنني لا أؤمن بإمكانية تحقيق السلام دون أن يكون هناك-على الأقل- محاولة للوصول إلى تفهم متبادل بين كلا الجانبين، و إن لم يتم ذلك، فإن العلاقة بين تلتي و تلتك ستبقى علاقة هشة متضعضعة على أرض الواقع”…

ثانيا : روايتين في رواية واحدة


الرواية هنا، تعبر عن قناعة كل طرف في هذا الصراع، إنها الرواية التي تتواترها الأجيال و عبرها تنقل شرعية الصراع و غالبا ما تحمل معها كل ما ينافي التعايش و السلام, و لهذا أفضل أن أتطرق إلى ما هو معروف تاريخيا (التاريخ الديني), و أود أن أشير بهذا الصدد، إلى أن أقوى المرجعيات التاريخية التي يمكن الاستناد إليها هو ما ورد في القرآن الكريم لأنه الحقيقة الأكثر وضوحا و ثباتا.

 تاريخ بنو إسرائيل بدأ في الأرض المقدسة؛ في القرآن الكريم بنو إسرائيل هم نسل سيدنا يعقوب بن سيدنا إسحاق بن سيدنا ابراهيم و السيدة سارة. كان  يقيم سيدنا يعقوب عليه السلام  في بدو فلسطين، ثم هاجروا إلى مصر وذلك حسب ماورد في قصة سيدنا يوسف حيث قال لهم:” ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين…”(سورة يوسف) وعاشوا فيها بأمان تحت وصاية سيدنا يوسف، لكن بعد وفاته ومع حكم فرعون لمصر تغير وضعهم إلى استعباد و قتل، حيث استمر ذلك إلى أن كتب الله عليهم الخروج بمعية النبي موسى عليه السلام “ونجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب …” (سورة البقرة) “… و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين …” ( القصص) أثناء عودة بنو إسرائيل مع النبي موسى عليه السلام تلقى الرسالة الثانية وهي الشريعة الجديدة لبني اسرائيل ، بجانب الطور الأيمن في وادي عربة.

   استقروا بعدها في أرض شرق نهر الأردن وفي السفوح الغربية المطلة على فلسطين، تحديدا قرية مدين حيث كان يقطنها قلة من قوم النبي شعيب عليه السلام و ذلك حسب الآية ” و إذا قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج مما تنبت الأرض من بقلها و قثائها و فومها و عدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، اهبطوا مصرا فإن لكن ما سألتم” 

ومصرا هنا مفرد أمصار يعني بلدة تتميز بما طلبوه، و هي أرض مدين التي تعرف عليها موسى سابقا أو قد تكون منطقة  أخرى قريبة ” و إذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا و ادخلوا الباب سجدا   و قولوا حطة نغفر لكم خطاياكم و سنزيد المحسنين ” و هنا لازال بنو إسرائيل لم يطأوا الأرض المقدسة. لكن بعدها أمر موسى قومه “ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين” “قالوا إن فيها قوما جبارين  و إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها …” “…قالوا ياموسى إنا لن ندخلها أبدا ما دامو فيها فاذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون” 

ثم قال الله بعد دعاء موسى “…فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين ” من هنا يتبين أن بنو إسرائيل قد حرموا من الأرض 40 سنة. يتيهون في الأرض تاركا إياهم دون قيادة الأنبياء وحرمانهم من الرعاية الإلهية التي كانوا يحظوا بها سابقا ثم بعد انقضاء سنون التيه الأربعون، و بعد تعرضهم للضيق من قبل الممالك المجاورة طلبوا من نبي لهم لم يذكر اسمه “ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى، إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله…”  بغية دخول الأرض المقدسة، فبعث الله لهم طالوت ملكا و أعدهم للحرب و كانت المواجهة مع الكنعانيين، ثم انتقل الملك لداوود عليه السلام، و هنا أسست لهم أول مملكة على الأرض المقدسة حيث كان سيدنا داوود أول ملوكها، و بعده سيدنا سليمان حيث شملت مساحة أكبر في عهده من النهر شرقا إلى البحر غربا. و بنى مدينة المقدس والمسجد الأقصى كما نسميه الآن هو مكان صرح سليمان الذي ذكر في القرآن، و الصخرة المشرفة هي قبلة اليهود, أما المسلمون فيصلون في المسجد كما صلى الرسول (ص) و هذا يدل على أن المكان المقدس مشترك لكل من المسلمين و اليهود.

تحقق لليهود إبان فترة النصر هذه ما وعدهم الله به إلا أنه بعد وفاة سيدنا سليمان و توارث الملوك للحكم عاد فريق من بني اسرائيل إلى الطغيان و قتل الأنبياء و أولي الأمر و كل من عارض أهواءهم وفسادهم كما في الآية الكريمة “… ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم و تخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم و العدوان …”  و هو كما في الآية يتبين أن المسيطرين على الحكم بعد سليمان كانوا يستضعفون طائفة منهم بالنهب و القتل و الطرد, إضافة إلى ذلك نقضهم ميثاقهم و إنكارهم حقيقة النبي (ص) ” و إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا فبأس ما يشترون ” … وجراء مجموعة من الخطايا التي ارتكبها بنو إسرائيل جاء عقابهم من الله ” و إذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب، و إنه لغفور رحيم، وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون و منهم دون ذلك و بلوناهم بالحسنات و السيئات لعلهم يرجعون. فخلف من بعدهم خلف ورثو الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا و إن يأتهم عرض مثله يأخذوه، ألم يؤخذ  عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق و درسوا ما فيه و الدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون” (الأعراف ) كما يبدو في الآيتين هناك العقاب و المغفرة و أن الله لم يسلط العقاب على بني إسرائيل بشكل أبدي بل هناك مغفرة في حال التراجع و أن العقاب يخص فقط الفئة التي بالغت و تمادت في الخطايا, و كتب لهم أن يقسموا في الارض أمما لكن لم يذكر تحريم الأرض المقدسة على اليهود و هناك آية أخرى من سورة الاسراء :” وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين و لتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار و كان وعدا مفعولا. ثم رددنا لكم الكرة عليهم و أمددناكم بأموال و بنين و جعلناكم أكثر نفيرا، إذا أحسنتم أحسنتم لأنفسكم و إن أسأتم فلها، فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا.عسى ربكم أن يرحمكم و إن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا.”
يتضح  من خلال الآيات أن الله عاقب بني اسرائيل بعد إفسادهم الأول بحرمانهم من الرعاية الالهية أربعون سنة و هزيمتهم الأولى من طرف جالوت وجنوده، أما الافساد الثاني بعد العلو يقصد به تدمير الدولة على يد البابليين. لكن الله سبحانه و تعالى لم يجعل من هذا الدمار أو العقاب أخر حدث لليهود، فهو بالمقابل وعدهم بالرحمة و المغفرة، في مواطن عدة من القرآن، و قد أنذرهم إن عدتم إلى الطاعة فقد أعود إليكم بالنصر و التأييد و أن الكافرين منكم توعدتهم بجهنم، و أن الله قد ابتلاهم في مرات عديدة ليغفر للمؤمنين منهم و يمتحن مدى تقربهم اليه. وتعرضنا لهذه الآيات ان دل على شيء فإنما يدل على أن القرآن الكريم يوضح مكانة اليهود من بين البشرية كأمة، من بينهم المؤمنون الذين لم يتخلى عنهم الله، يحضون بالمغفرة و التوبة و هناك  فئة متدبدبة مفسدة يتوعدها الله بالعقاب. إلا أن تحريم الأرض المقدسة نهائيا غير وارد، فكيف سيحرمها الله عليهم كافة و للأبد، و الله يذكرنا في كل آية بغفرانه وتوبته. و أذكر بأمر آخر أن الله وجه خطابات مماثلة للمسلمين من أمة محمد (ص) ومن المسلمين من هم منافقون و فاسدون الذين يتوعدهم الله بعقابه في القرآن الكريم، لكن هذا لا يعني حرمانهم من أراضيهم وأوطانهم 
و خلاصة الكلام تتمثل في كون التاريخ الديني و البشري يؤكد على أن تلك البقعة التي تشترك فيها  إسرائيل و فلسطين كتب لها تاريخيا أن تكون أرضا مشتركة بين كلا الشعبين. إلا أنه من الصعب أن نقنع شعبا عاش متفردا بأرض سماها فلسطين لسنين طويلة، حتى ظن أن القدس ملكه. وليس هذا فحسب، فالدخول الاسرائيلي بطريقة المحتل و أعمال التخريب و النهب   و القتل في حد ذاتها عمقت من أزمة الاستيعاب. و لا أدري إن كان هناك حل أمثل بديل لبداية الدولة الإسرائيلية، أم أن الاصطدام كان أمرا حتميا، خاصة عندما أفكر أنه غالبا ما كان سيحدث أمر مماثل لو كانت عملية الاسترجاع من طرف المسلمين 
  لكن، بما أن الفلسطينيين يرجعون أصولهم للكنعانيين على أساس أن لهم أحقية و أسبقية على الطرف الآخر، فالكنعانيون كما ذكرنا سابقا تم غزوهم من طرف بني اسرائيل بقيادة طالوت، ، وتقلصت آنذاك بقعتهم الأرضية حيث تم اقتسامها و تأسيس مملكة بني  اسرائيل، تعرضوا فيما بعد للغزو البابلي برمتهم (الكنعان و اليهود) و بقيت أقلية طفيفة من الكنعان منصهرة وسط الممالك. فالتاريخ الحقيقي لا يسقط أحقية أحد من الطرفين ، و لهذا نتساءل إلى متى سيدوم صراع الشرعية ؟ و إلى متى سيقتنع هذا الطرف بشرعية الآخر في الوجود على تلك الأرض؟  

ثالثا: الانفصال المشترك، التنازل من أجل السلام

نعلم أن أصل الصراع تجاهل و نفور من الطرف الآخر و احتكار للشرعية، هذا النفور الذي نلاحظه لا يعدو أن يكون إلا سياسيا، يعود بالدرجة الأولى الى عهد النبي (ص) و ما واجهه المسلمين آنذاك بمعية نبيهم من خيانة من قبل اليهود، الأمر الذي يفسر جليا السبب الذي جعل العالم الإسلامي –بالخصوص- يتجاهلون الثقافة اليهودية و تاريخهم، بالرغم من احتوائهم للشعب اليهودي، و مشاركة هذه الأخيرة في الحياة الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية. مثال على ذلك وضعية اليهود في المغرب، حيث يملكون  مكانة لا يستهان بها، اجتماعيا و ثقافيا و سياسيا و اقتصاديا، و تعتبر الثقافة اليهودية جزءا لا يتجزأ من الثقافة المغربية. إلا أن درجة هذا الانسجام لم يشفع لها بالحصول على حيز من الاهتمام في المناهج الدراسية و المحافل الوطنية، سوى بعض المحاولات المستقلة في الابحاث الأكاديمية التي تعرف بالثقافة اليهودية الأمازيغية، و نفس الشيء بالنسبة للبلدان الأخرى

   لقد كان الموقف الذي اتخذه المسلمون قويا بما فيه الكفاية يجعلهم ينتقمون من اليهود بالتجاهل طيلة هذه الفترة، إضافة إلى مؤازرتهم المستمرة و دعمهم للمسلمين في فلسطين، و اعتبارهم عودة إسرائيل إلى تلك البقعة بمثابة احتلال للأراضي الفلسطينية. و على اعتبار أن ديانتنا الحنيفة لم تأمرنا بمعاداة اليهود ، و أن قصصهم في القرآن كانت عبر و تذكرة ، فإنني أجد هذه المعاداة و الانكار لا محل له في الدين، و أقر أنها مسألة سياسية لا أقل ولا أكثر.
هذا الصراع الموجود على شاكلة جدار فكري ينبغي حله أولا على صعيد السياق العام بين إسرائيل وباقي الشعوب تاريخيا و ثقافيا و دينيا و سياسيا، من أجل تحقيق الانفصال المشترك، ولابد من اقتناع كلا الطرفين بحدود شرعيته، و الاعتراف بشرعية الآخر، هذا الاقتناع العالمي و الاسلامي بالخصوص هو أساس الأمن الذي ينبغي أن يعم المنطقة، و أي عملية دموية أو تخريبية ينبغي أن تعتبر في خانة الإرهاب و تهديد للأمن، لا جهادا كما يعتبره الفلسطينيون ولا دفاعا أمنيا من ناحية إسرائيل.
أعتقد أن ما تحتاج إليه القضية ، هو تدارك الجهل التاريخي و الثقافي الذي يعتبر مفتاحا للسلام و خطوة تنازلية أولى للاعتراف بوجود الآخر، و أن التنازل قبل أن يشمل المجال الضيق (اسرائيل وفلسطين) ينبغي أن يشمل المجال الأوسع منه. تنازل عن التشبث بالسمو ، و الانتقام و عدم الثقة بالآخر، ثم تنازل عن القوقعة الدينية، وهذا يعني التجديد و المصالحة مع الذات و القابلية للانفتاح. هذا الأمر يخص بالأساس الثنائي المتناحر اللذان يحملان نفس الطباع، ثم اليهود فيما بينهم  الذين يجمعهم الخوف و الشك أكثر من مفهوم الأمة، و هذا ما أعاتب عليه الكاتب كونه تردد على وتر المعاناة و الخوف أكثر من مشاعر الانتصار و التأسيس 

 رابِعاً: في الذاكرة

كما ذكرت سابقا هذه أكبر رسالة آلمتني ، و المتعلقة  بحدث المحرقة و ما خلفته من جرح عميق في ذاكرة اليهود، و تجدر الإشارة إلى أنني لم أعلم بواقعة المحرقة إلا عرضيا في حصة من درس تاريخي، لذلك أتساءل ما سبب هذا التجاهل؟ و السيء هنا أننا نتعلم من الصغر تجاهل الحقائق التي تنافي إديولوجية المجتمع، و هذا هو حالنا مع كل ما يتعلق باليهود تاريخهم؛ ثقافتهم؛ انتصاراتهم ونكساتهم …، فواقعة المحرقة هذه لا تعتبر جزءا من تاريخ اليهود كمجموعة عرقية  فحسب و إنما هي إحدى النقط السوداء من تاريخ البشرية، و كوننا نعتقد عكس ذلك أو نتجاهله فهو بمثابة إضفاء شرعية على بعض أعمال الإبادة بما يتماشى مع أهواءنا
   و مايؤسفني حقا، هو تعاطف من يطلقون عن أنفسهم مسلمين مع جريمة ضد البشرية، لأنهم في وضع سياسي و إديولوجي يرفض قيام دولة إسرائيل، وهذا ما يؤكد أن الصراع و الجدار الفكري لا علاقة له بكل ماهو ديني. و باعتباري مسلمة، لا أجد في الدين الاسلامي أي نص يدعو إلى معاداة اليهود و لا أي جنس بشري ومنعهم من تأسيس كيان يستقلون به

ملاحظات ختامية

  يسعدني أن أشارك في هذه العملية التواصلية، و الأهم من ذلك أنني تعرفت على أمور شتى أجهلها كأي أحد من جيرانكم، خاصة فيما يتعلق بمعاهدات السلام و السياسة الاسرائيلية، كما أحيي في نفس الوقت روح الانفتاح التي أعرب عنها الكاتب في هذه الرسائل كفكرة و مبادرة و مضمون، و يبدو أن توقعاتي من القراءة الخارجية كانت في محلها، و لعل أكثر العبارات الدالة على ذلك “… إننا نقر كإسرائيليين بأننا قد تجاهلناكم لسنوات طويلة، لقد عاملناكم كما لو كنا لا نراكم…”  وهذا مثال عن إحدى الاعترافات الصريحة الواردة في قالب أدبي يستحق التأمل و المناقشة بكل موضوعية، على المستوى الاجتماعي و الدبلوماسي، و نتجاوز الصورة الساذجة التي رسخت في أذهاننا حول هذا الصراع
   ولابد من أن مبادرات الانفتاح مع دولة إسرائيل و الدول الاسلامية تبعث على الارتياح و هي نابعة من الحقيقة التي يقر بها المسلمون في أنفسهم، على اعتبار أن اليهود “أمة” بكل المقاييس  لا تختلف عن مفهوم الأمة الذي يجمع المسلمين
  شخصيا، لا أعتبر هذا العمل الأدبي مجرد كتاب ينبغي أن يجد مكانه وسط الرفوف و الفهارس، بل  ينبغي أن يكون فاتحة مسار للتواصل البناء حول القضية التي طالما اقترنت بالفلسطينية، في حين ينبغي أن تكون قضية فلسطينية إسرائيلية لأننا نتواجد أمام  شرعيتين

كل ما أتمناه أن يتم إحلال السلام في المنطقة بين الشعبين ثقافيا و اجتماعيا و سياسيا، بتأييد حل الدولتين دون انتهاك أي حق من حقوق الطرفين، و الأهم من ذلك أن يكون سلاما يترجم الاعتراف بوجود الآخر على المجال الضيق و الواسع