تعقيبٌ على كتاب “رسائلٌ إلى جاريَ الفلسطيني – عبد الإله (عبود) دَندَشي

عزيزي يوسي، تحية طيّبة من شخصٍ ليسَ بِجارٍ قريبٍ منك 

يُصادفُ يوم غدٍ التاسعَ عشر من شهر اكتوبر/تشرين أوّل، وهوَ تاريخٌ ليسَ بذاتِ الأهميّة، لكنه يعني لي مضيّ عامين وثلاثة أشهرِ منذ وصولي إلى كندا كلاجيءٍ عبر طائرةٍ أقّلت عشرين لاجِئاً آخر مثلي. إنني أقدّر جداً تاريخ التاسع عشر من كل شهرٍ فهو يعني ليَ الكثير

وفي السياق نفسهِ، وحسبما فهمتُ من قراءتي لكتابكَ فإن التواريخ تشكّلُ ذاتَ الأهميّة بالنسبة للشعبِ الإسرائيليّ، حيثُ بدأت العديد من فصولِ كتابكَ بذكرِ العديد من التواريخِ الهامّة مثلَ صيام التاسعِ من آب ويومِ استقلالِ دولةِ إسرايلَ ويومِ القدسِ وذكرى الهولوكوست ، حتّى أنك أتيت على ذكرِ عيد الأضحى الإسلامي، لكن التاريخَ الذي شدّ انتباهي على وجهِ الخصوص كان عيد العُرش اليهوديّ – عيدُ السُّكوت

ولكَ أن تتخيل، عزيزي يوسي، حجمَ اندهاشي وذهولي عندما عرفتُ بأنّ الشعبَ اليهوديّ يحيي ذكرى تلكَ السنواتِ التي جالَ خلالها أجدادهُم في صحراء سناء بقيادةِ النبي موسى عليه السلام حتّى دخلوا أرض الميعاد، فهُنا تكمنُ الفجوة المهولةُ بين الجانبين في كيفيةِ رؤيتهِما للصراع العربيّ الإسرائيلي. وكإنسانٍ سوريّ فقد نشأت وترترعتُ في ظل نظامٍ تعليمي علّمني أن إسرائيلَ أقيمَت من قِبلِ بعض اليهودِ الأوروبيينَ الذين حلّوا محلّ السكان العربِ على هذه الأرض، وهذا هو المنظورُ الذي يرى بهِ 99 بالمئة من العربِ دولةَ إسرائيل

كذلكَ فإنه لم يحدُث وأن أتيحت ليَ الفرصةُ لفهمِ دولةِ إسرائيلَ بِعيونِ الإسرائيليينَ أنفُسهِم، لم أتعلّم كيفَ أعادوا بناءَ وطنهِم مرةً أخرى، هذا الوطنُ الذي خضع لامبراطورياتٍ غريبةٍ عن هذه الارض بينما قامَ الرومانُ بنفيّ شعبكَ اليهوديّ إلى شتّى أنحاءِ الأرض. وهذا بالمناسبةِ ليسَ الأمرَ الوحيدَ الذي تعلّمتهُ من كتابكَ، فقد تعرّفتُ أيضاً على وجودِ عيدٍ يُدعى عيد العُرش اليهوديّ ، هذا العيدُ الذي يُثبتُ مصداقيّة ارتباطِ الشعبِ اليهوديّ وتاريخهُ بهذه الأرض، لكن قلّما تجدُ مَن يعرفُ عن هذا العيدِ أو حتى سمع به بين العرب

وفي بداية كتابكَ فقد قلتَ بأنك ” لا تؤمنُ بأن السلام ممكنُ أن يحلّ دونما القيام بمحاولةٍ – على الأقٌل – لخلقِ تفهّم
مُشتركٍ “، وهو أمرٌ أتفقُ معكَ فيه تماماً، خاصةً وأن رسائلكَ تجسّدُ تفهّمُكَ لجاركَ الفلسطينيّ وتعاطفكَ مع آلامهِ ومعاناتهِ وطموحاته ، في الوقتِ الذي تُعبّرُ فيهِ عن اصراركَ الشديد على عدمِ  تركِ أمنِ شعبِكَ وسلامة وجودهِ بين يدي الآخرين وتكرار هذا الخطأ مرةً أخرى

عزيزي يوسي، أنا لستُ فلسطينيّاً، وقد قرأت كتابكَ كأي شخصٍ ليسَ لهُ مصلحةٌ محددة من هذه القرائة، خاصة وأني أعتبرُ نفسي شخصاً خرجَ من دائرةَ الصراع، ولم يعد ليَ علاقة بخطط السلام المُنصرمة، ولا حتى بالتنازلات الشاقّة التي كان يتوجب على الجانبين القيام بها في سبيل إحلال السلام مستقبلاً. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أريد أن أقتبسَ ما كتبتهُ في كتابك حين قلتَ ” إنني أتفهّمُ أن حيفاً تعودُ لك من وجهة نظرك، لكن المشكلةَ في ان الخليل تعود لي من وجهة نظري

إنني أعتذرُ لكَ صديقي يوسي، إذ يجب عليّ أن أعترفَ بأنني كنتُ أجهلُ أهميّة مدينة الخليل بالنسبة للشعبِ اليهوديّ، كما وأعتذر أيضاً عن عدم درايتي – حتى قرأت كتابكَ – بأنه غيرُ مسموحٍ لليهودِ بتجاوز الدرجة السابعة اذا ما أرادوا زيارة الحرم الابراهيمي في الخليل، لكنني أكادُ أجزمُ بأنّ الإلمام بمثل هذه الأمور والحقائق هو أمر تجهلهُ الغالبية العُظمى من العرب، وهنا تكمنُ أهمية كتابك، حيثُ أنه مليءٍ بالمكاشفاتِ التي تُظهر الأمور على حقيقتها والتي يتوجّبُ على العربِ معرفتها جيّداً إذا ما أرادوا تفهّم جانبكَ ووجهة نظرك في هذا الصراع، وأنا على يقينٍ بأن الجانبَ الإسرائيليّ يتفهّم الجانبَ العربي أكثرَ من تفهّم الجانب العربيّ للجانبِ الإسرائيلي

وبطبيعة الحال، فإنني لم أقُم بقراءة كتابكَ قاصداً إيجادَ حلٍ يُنهي هذا الصراع المستمر بينكُم وبين الفلسطينيين، حيثَ أن مآربي من قراءةِ هذا الكتاب كشخصٍ سوريّ  تكمنُ في أشياء أخرى،. إنني – ومنذ فترة ليست بالقصيرة – أحاول قراءة تاريخِ الشعب اليهودي، آملاً أن أجدَ اجاباتٍ على العديد من الأسئلةِ الهامةِ التي تدور في ذهني، والتي برزت أهميّتها لديّ منذ أن أُجبرتُ على مغادرة وطني سوريا

كيفَ نجحَ اليهود بالقيام بكلّ هذا؟! لقد كان شعبُك اليهودي مُشتتاً يعاني أشد أنواع العُدوان والظلم في دولٍ غريبةٍ لأجيالٍ وأجيالٍ! لقد تعرضتم لمذبحةٍ تلو مذبحة وكنتُم أكثرَ شعبٍ تعرّضَ للاضطهاد عبر التاريخ، وهو أمر بلا شك قضى على روحكُم المعنوية وطموحاتكُم وآمالكُم بالعودة إلى وطنكُم في الشرق الأوسط وإقامة دولتكُم مرةً أخرى، فكيف فعلتموها إذاّ بعد كلّ ما مررتُم به من تجارب مؤلمة؟! وهو الأمر الذي طرحتهُ أنتَ نفسًك في كتابكَ عندما قلت:” كيف نجح أجدادن في ابقاء الأمل في نفوسهِم.. أحد أهم الأسباب التي تجعلن يهودياً مؤمناً هو هذه العقيدة التي حملها أجدادنا في قلوبهم”. إن كتابكَ مليء بالأفكار المماثلة لهذه الفكرة عزيزي يوسي، أي العودة الى الماضي في سبيل فهمِ الغاية من وجودك ، بينما تصارعُ في الوقتِ الحاضرِ لمواجهة  العديد من المشاكل التي يبدو وكأنها مستعصية

كذلك فإن رسائلكَ تتضمنُ تأريخاً للعديد من الأحداثِ والأماكنِ الهامّة بالنسبة للشعب الاسرائيليّ، لكن باعتقادي فإن نسبةَ من يعرفون حقيقةَ هذه الأماكن والأحداث  ضئيلةٌ جداً بين العرب، فعلى سبيل المثال لا الحصر فإنني لم أكُن أعرفُ قبل قراءتي لكتابكَ عن كفار عتصيون التي استسلم مقاتلوها أمام العرب سنة 1948، الا ان استسلامهم لم يشفع لهم حينها فقام العربُ بقتلهم إباء إعلان قيام دولة إسرائيل، وقد كنتَ محقاً عندما وصفتهُ في كتابكَ بأنه “أحدُ الجروح النازفةِ التي أثرت بعمق في النفسية  الاسرائيلية”. وحقيقة فإن هذه الأحداث هي التي يجبُ علينا مواجهتها والوقوف على حقيقتها والحديث عنها إذا ما أقيم سلامٌ يوماً ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وما يقوم به كتابكَ فعلاً هو التطرق لمثل هذه الأحداث الهامة حتى يكون العربُ على درايةٍ تامّةٍ بها

كما أن رسائلكَ، عزيزي يوسي، تعبّر عن عقليّة شخصٍ لا يقوم ولن يقومَ  بالاعتذارِ للآخرين مُبرّراً لهُم بقاء شعبهِ وأمته على قيد الحياة في سبيل المضيّ قدماً في الحوار مع الجانب الآخر، كما ولمستُ في كلماتكَ أيضاً عدم تردّدكَ في تذكير الجانب الآخر بالحقائقِ التي لا يرغبُ بتذكّرها بينما تقوم بالدفاع عن أرضكَ وشعبكَ

إن عاطفتكَ في هذا الكتابِ هي عاطفةٌ شخصٍ يتمنّى أن يحلّ سلام حقيقيّ بينه وبينه جيرانه، وهنا أقول سلاماً حقيقياً لا سلاماً يفرضهُ الطرفٌ المُنتصرُ القويّ على عدوّهِ المُنكسر المَهزوم. أنك تطمحُ لسلامٍ يعمّ على المنطقة ويدومِ لأجيال وأجيالٍ متلاحقة

حقيقةً  فأنك تعبّرُ في كتابكَ عن الأمل العميق بأن تكون الأفكار الموجودة في الكتابِ أساساً لأي خطة سلامٍ مُستقبليّة، وأنا أتمنى بكل صدقٍ ومن كل قلبي أن يحلّ هذا السلام الذي تنشدهُ بينك وبين جاركَ الفلسطينيّ.

أخيراً وليسَ آخراً، فإنني كلاجيء سوريّ ساواصلُ البحثَ عن كل ما من شأنه أن يُلهمني ويمنحني الأمل أينما وجدتهُ، ودولة دولة كندا هي مكانٌ مناسبٌ بالنسبة لي. لقد حلُمَ أبناءُ شعبكَ بإقامة وطنهِم وتحريره من الاحتلا لمدة جاوزت الفي عام، لكن أحلامي في الانتقال الى دولةِ كندا دامت 19 شهراً فقط، وهي الفترة اللازمة لأنهاء اجراءات طلبي بالانتقال إليها

عزيزي يوسي، لقد اخترتَ بمليء إرادتك أن تنتقلَ من الولايات المتحدة إلى واحدة من أكثر المناطق اضطراباً في العالم، لكني أتمنى بكل صدق ألا تطأ قدمي هذه المنطقة مرةً أخرى مهما حدث.  لكننا بنهاية المطافِ نتمنى لبعضنا البعض الشيء نفسه، أي تقبّل وجودنا من قبل أولئك الذين نعيشُ معهُم وبين ظهرانيهم

لقد تحدثت في كتابكَ عن أهمية أن يسمع الإسرائيليون أصواتاً معتدلة من جيرانهم تعبر بكل صراحة عن أن الانكار العربي لوجود اسرائيل الذي لم يعد يحتملهُ الإسرائيليونَ  قد انتهى أخيراً، وذلكَ حتى يتسنّى للاسرائيليين تقديم تنازلاتٍ تتعلق بأمنهم وأمانهم، وأنه يتوجب على جيراننا ان يُشعرونا بأن دولة إسرائيل قد وُجدت لتبقى. بالتالي فإنه سيكون انجازاً عظيمٌ حينما يتم تقبلكُم وتقبّل وجودكُم في هذه المنطقة بكل صدر رحب، وهو بالمناسبةِ إنجازٌ يضاهي في عظمته انجازَكُم بإقامة دولتكُم ، دولةِ إسرائيل

 

مع أطيبِ وأرقّ التحيات

 

عبد الإله (عبود) دَندَشي