رحلةٌ لتغيير الشرق الأوسط – يوسي كلاين هاليفي 

لقد نشرتُ قبل سنتين كتاباً أطلقتُ عليه “رسائلٌ إلى جاريَ الفلسطينيّ”، وهو بمثابة محاولة لتعريف الفلسطينيين والعربِ باليهود وهويّتهم ولماذا عادوا إلى أرضِ إسرائيل، حيث لم يسبِق لأي كاتبٍ إسرائيليّ بأن يُخاطبَ جيراننا العرب والفلسطينيين مباشرةً ليواجههم بالتضليل وسوءِ الفهم المحيط بالتاريخ اليهوديّ والهوية اليهودية وارتباط اليهود بأرض اجدادهم، أرض اسرائيل، وحقهم في ان يكون لهُم سيادة مستقلة على تلك الارض، هذا التضليل والترحريفُ المُتغلغل والمنتشرُ على نطاق واسعٍ في العالم العربي. إن هذه الثقافة والعقلية القائمة على أساس رفضِ وإنكار فكرة تأصّل اليهود في هذه البقعة من العالم وكونهم سكاناً أصليين لهذه المنطقة هو أحد أهم الأسباب التي تقلل من احتمالية التوصّل إلى حلّ ينهي هذا الصراع، بالتالي قررتُ أن أخوض غمار هذه المواجهة وأواجه هذه المعضلة المفاهيمية التي تقفُ عائقاً أمام تحقيق السلام

وقد تمّت لاحقاً ترجمةُ الكتاب للغة العربية وتم طرح الكتاب للتحميل مجاناً عبر الموقع المخصص للكتاب في نفسِ اللحظة التي تم نشر الرسائل باللغة الانجليزية، إذ كانت ترجمة الكتاب للغة العربية أمراً ضرورياً من أجل تحقيق الغاية من نشر الكتاب، حيثُ تعهّدت بالرد على أي رسالةٍ أتلقاها من القراء العرب والمسلمين أيا كان محتواها طالما التزم صاحب الرسالة بأدبيات النقاش والحوار. لقد كان هدفي بسيطا للغاية: لقد كنتُ أطمح لأن أتلقى رسائلَ من قراءٍ فلسطينيين بحيثُ يشكّلُ نقاشي معهُم نموذجاً يُحتذى به للحوار والنقاش والاختلافِ القائم على الاحترام المتبادل حول الرواية التاريخية للطرفين

وبطبيعة الحال لن يتفق الفلسطينيونَ ولا الاسرائيليونَ حول ما حدث سنة 1948 او سنة 1967، وسيختلفان أيضاً حول مسؤولية فشل مباحثات أوسلو للسلام خلال التسعينيات، بالتالي وعِوضاً عن هذا الاختلاف المستمر كنتُ آملُ أن يخلقَ نقاشي مع الفلسطينيين نموذجاً للحوار القائم على أساس ومبدأ تأصل كلا الشعبين في هذه الارض، وحقّ الشعبين في العيش على هذه الارض وحق كل منهم في تقرير مصيره

لقد حاولتُ أن أبدأ هذا المشوار دونما توقّعات، لأننا وبنهاية المطاف نمرّ بوقتٍ تطغى فيه مشاعر اليأس والاحباط على الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي، حيثُ أظهر الرفضُ الفلسطينيّ القاطع لخطة الرئيس الامريكي دونالد ترامب مدى بُعدنا عن الوصول إلى اي اتفاق، هذه الخطة التي تم كشف النقاب عنها بداية السنة الحالية والتي تقوم على أساس منح الفلسطينيين دولة مستقلة لكن ذات مساحة أقل من المساحة التي طرحتها مشاريع السلام السابقة لانها تتضمن إبقاء المستوطنات على حالها

لكن ورغم ذلك إلا انني تلقيتُ مئات التعقيبات من قراءٍ فلسطينيين وعرب من جسنياتٍ مختلفةٍ، وقد وجدتُ في هذه التعقيباتِ ما يوحي بوجود تغيير تاريخي وجذريّ ملحوظ في المواقف العربية تجاه اسرائيل. وقد تلقيتُ هذه التعليقات عن طريق الموقع المخصّص للكتاب باللغة العربية اضافة إلى صفحة فيسبوك تختص بنشر الكتاب والتواصل مع القراء العربِ والفلسطينيين، وهذه التعليقاتُ التي تلقيتها كانت كفيلة بنشر طبعةٍ جديدة من الكتاب في شهر تموز/يوليو 2019، حيث تضمنت هذه الطبعة قرابة الخمسين صفحةً في نهاية الكتاب والتي أضفتها تحت عنوان: رسائلٌ من الفلسطينيينَ لجيرانهم الإسرائيليين

  لقد أرسل لي شابٌ فلسطينيّ نشأ وترعرع في أحد مخيمات اللجوء الفلسطينينة في الضفة الغربية رسالةً يعبر فيها قائلاً بأن كلانا يمتلكُ ادّعاءاتٍ مشروعةً في هذه الارض”، فيما أرسلت إليّ شابة فلسطينية من غزةً رسالة تقول فيها: إنني أقرأ كتابكَ لأنني أطمحُ أن يَمنحني هذا الكتابُ بعض الأمل

في الوقت نفسه عبّر العديد من القراء عن كراهيتهم لإسرائيل وانكارهم للارتباط التاريخيّ لليهود بهذه الأرض اضافة إلى انكارهم للهولوكوست. يقولُ صلاح من رام الله: ” إنني اعترف بحدوث الهولوكوست، لكني في الوقت نفسه قرأتُ مؤلفاتٍ وكتباً وتقاريرَ وسمعتُ العديد من اليهود الذين يتحدثون عن استحالة حدوث الهولوكوست نظراً لاستحالة قتل هذا العدد الهائل من البشر خلال تلك الفترة الزمنية، الامر الذي جعلني أعتقد بان هنالك مبالغة وتهويلاً فيما يتعلق بقضية المحرقة”

كذلك فقد عبّر البعضُ عن امتنانهم العميق لجهودي في تأليف هذا الكتاب ومحاولة التواصل مع القراء. وهنا أود أن أشارككم هذه القصة التي حدثت معي في يومٍ من الأيام عندما زارني في مكتبي في معهد شالوم هارتمان في القدس شابٌ فلسطينيّ سأطلق عليه اسم علي، حيث أخبرني بأنه قرأ النسخة الانجليزية والعربية من كتابي إلا انه لاحظ ان الترجمة للغة العربية كانت ترجمة ركيكة تفتقرُ لروحِ اللغة العربيّة وتفتقر للأسلوب الأدبي المطلوب لمثل هكذا عمل، ومن ثم أعطاني عدة أوراق مكتوبة باللغة العربية قائلاً:”هذه عيّنة من ترجمتي، إذا اعجبتك فسيكون من دواعي سروري أن أقومَ بترجمة كتابك

أخذت الأوراقَ من عليّ وعرضتها على عدة أصدقاء عربٍ لأسمع رأيهم وقد أجمعوا بأن ترجمته جميلة وسلِسَة، فطلبتُ من علي أن يقومَ بترجمة الكتابِ كاملاً، وبالفعل قام بترجمته وهو متوافر الآن مجاناً على الموقع الالكتروني المخصص للكتاب letterstomyneighbor.com 

وبطبيعة الحال ونظراً لحساسية الموضوع ومخاوف عليّ من الأذى الذي قد يتعرض له على يد الفلسطينيين نتيجة لترجمته كتاباً ككتابي فقد حرصت على أن يتم نشرُ الكتاب دون أن يُذكر اسم المترجم

ويقوم علي حالياً بادارة الصفحات الخاصة بالكتاب عبر مواقع التواصل الاجتماعي باللغة العربية، وبفضل جهوده فقد تلقيتُ العديد من الردود والتعقيبات على الكتاب من قرّاء من مختلف الدول العربيّة والشرق الأوسط، كما قامت مجلة “المجلة”- وهي أحد المواقع الاخبارية السعودية التي تنشر من لندن – بنشر تعقيبٍ ايجابي مكونٍ من صفحتين. لقراءة التعقيب المنشور على صفحة المجلة بامكانكم زيارة هذا الرابط

كذلك فقد قامت عدة صحفٍ ومجلاتٍ ومدوّناتٍ مغربية ومصريّة بنشر تعقيباتٍ وانتقاداتٍ ايجابيّة بناءةٍ، فيما أرسل إلي أحدُ الشيوخ السعوديين طالباً عدم ذكره اسمه مثل العديد من المعلٌّقين الفلسطينيين والعرب، حيث قال بأن قراءة الكتاب جعلته يدركُ حقيقةَ أن اليهود نفسهُم هم أبناء وأحفادُ العبرانيين، فتمكّن من فهم علاقة اليهود بجذورهم التاريخية الضاربة في عمق هذه المنطقة، حيث كانت ولازالت ارض إسرائيل جزءاً لا يتجزأ من منطقة الشرق الأوسط.  وقد أرسلَت لاجئة سورية تدعى روان رسالةً إليّ  تقول فيها بأنها نشأت وترعرعت على كراهية إسرائيل، وبأن كتابي قد ساعدها كثيراً لفهمِ الارتباط اليهوديّ بهذه الأرض

والسؤال هُنا: من أين جاء هذا التغيير الذي أدى لظهور مثل هذه التعقيبات الايجابية؟ إن مثل هذا التغيير يُعزى بشكلٍ جُزئيّ إلى التوسّع الشيعي في المنطقة والذي أدى إلى تحالفٍ غير مسبوقٍ بين إسرائيل من جهة والمملكة العربية السعودية ودول العالمِ السُنّي من جهةٍ أخرى

لكن هذا ليس السبب الوحيد، إذ يوجد أسباب أخرى أعمق يُعزى إليها هذا التغيير الجذري في المواقف العربية، حيث تزداد الأصواتُ العربية التي باتت تؤمنُ بأن الهوسَ العربيّ القائم على كراهية إسرائيل ورؤيتها كعدوّ قد خلقَ ثقافةً مُسمّمةً قائمة على الكراهية العمياء والهوسِ اللا مبرر، الأمر الذي ساهم بشكلٍ كبيرٍ في نشوب الصراعات الداخليّة التي أدت بنهاية المطاف الى دمار العديد من المجتمعات العربية بدءاً من سوريا وصولاً إلى ليبيا

وقد اجتمعَ حشدٌ مكونٌ من ثلاثين شخصية عربيّة خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر المنصرم في لندن لتأسيس المجلس العربي للتكامل للاندماجِ الاقليمي، وأقصد هنا شخصياتٍ ضمت عضواً في البرلمان المصري ووزيراً كويتياً وصفحيين تونسيين وخليجيين اضافة إلى أحد الأئمة الشيعة من لبنان. وقد دعت هذه الشخصياتُ إلى إنهاء مقاطعة دولة إسرائيل وضرورة التطبيع معها، حيث لم يسبق في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي بأن تدعو حركة شعبية عربيّة لمثل هذه الأمور

وقد أصرَت هذه المجموعة من الشخصيات على اهمية عملها بشكلٍ مستقل من خلال عدم تلقّي أي شكل من أشكال الدعم الحكومي سواءاُ من الحكومات العربية او الغربية، فيما لم يَحضر اي شخصٍ إسرائيليّ هذا الاجتماع. لقد جاءت تلك الشخصيات من دولٍ تُجرّم مجرّد اللقاء بالاسرائيليين، إذ ان لقاءهُم بالاسرائيليين كفيلٌ بالزجّ بهم في السجون بتهمةِ “تطبيع العلاقات مع العدوّ”. ومثلما كان متوقعاً فقد تعرَضَ المجتمعون لانتقاداتٍ شديدةٍ في الأوساط الاعلامية العربيّة، وعلى الرغم من الانتقادات الشديدة التي تعرض لها المجتمعون من قبل النظام الايراني وحزب الله والاعلام الموالي لهم الا أن الحكومات العربيّة لم تعقّب على هذا الاجتماع حتى اللحظة في حالةٍ من الترقّب الحذِر لما سيحدث

لقد كنتُ لسنواتٍ طويلةً مشككاً بامكانية تحقيق السلام، شأني في ذلك شأن العديد من الاسرائيليين، خاصة بعد التجربة المريرة التي عشناها خلال الانتفاضة الثانية وموجة العمليات الانتحارية التي استمرت لقرابة اربع سنوات والتي اندلعت سنة 2000 عقِب موافقة اسرائيل على حلّ الدولتين. لقد علّمتني هذه التجربة بأن الحركة الوطنية الفلسطينية والعالم العربيّ بأكمله لم يتقبّل بعدُ حقّ اسرائيل في الوجود على هذه الارض

لكن التغييرات التي تشهدها هذه المنطقة اضافة الى تجاربي الجديدة جعلتني أتفاءل بامكانية تحقيق السلام إلى حدٍ ما، فتحقيق السلام ليس قريباً بالدرجة التي نتوقعها، خاصة واننا قد نجد انفسنا في معركةٍ في مواجهة حماس وحزب الله وربما ايران، وهذ المشهد أراه اقربَ إلينا من مشهد جلوسنا مع الفلسطينيين على طاولة المفاوضات. أضف إلى ذلك أن الرأي العام الفلسطينيّ والخطاب الفلسطيني بشكلٍ عام لا زال يحاربُ أي اعترافٍ بشرعيّة اسرائيل، حيث أظهر استطلاع للرأي أجري حديثاً من قبل المركز الفلسطيني للسياسة والبحوث بأن ثُلثي الفلسطينيين يدعمون المقاومة المسلحة ضد اسرائيل، وفقط 39 بالمئة يدعمون حلّ الدولتين، لكني وللمرة الأولى في حياتي سوف أسمح لنفسي بأن أشعر بنوعٍ من التفاؤلِ الحَذِر

لقد تضمنت الطبعة الجديدة من كتابي رسالةً مِشتركةً أرسلتها إلي شابة فلسطينيّة أمريكية تدعى روان عودة وشابٍ إسرائيلي يدعى بار غالين، حيث التقى بار وروان في أحد اللقاءات التي تدعو للسلام والتعايش والذي عُقد في مدينة واشنطن. يقول بار وروان: ” الفضل يعودُ لكتابك الذي جعلنا نقوم بعملٍ مشتركٍ نجوب من خلاله الولايات الأمريكية ونتحدث إلى طلبة الجامعات  عن قصصنا وتجاربنا المختلفة. لقد كان كتابك سبباً لإقامة نقاشات وحواراتٍ بين شبانٍ وشاباتٍ فلسطينيين واسرائيليين في العشرينيات من عمرهم”. نحن الجيل القادم الذي سيقع على عاتقه مسؤولية مواجهة عواقب فشل جيل أوسلو في التوصل الى سلام، هذا الجيل الذي لم يستطع التخلص من افكاره المسبقة وطريقة تصوّره للآخر، خاصة وأنها الفكرة التي تقفُ عائقاً أمام المضيّ قدُماً وتجاوز هذه المعضلة”

 لكن عندما تتملّكني مشاعر اليأس والاحباط فإنني أذكر نفسي بروان وبار لأمنح نفسي مزيداً من الأمل بالمستقبل

 

 

  يوسي كلاين هاليفي هو زميلٌ أقدم من أبرز الزّملاءِ المُشاركينَ والناشطينَ في معهدِ شالوم هارتمان في القُدسِ، حيث حصلَ كتابه “مثلُ الحالِمين” سنة 2013 على جائزة ايفيريت السنوية التي يُطلقها المجلس اليهوديّ للكتاب، فيما صُنف كتابه “رسائلٌ إلى جاريَ الفلسطينيّ” كأفضل الكتب مبيعاً بحسب تصنيف النيويورك تايمز الأمريكية