السيد المحترم يوسي كلاين هاليفي؛

تحية طيبة و بعد؛

أود في البداية أن أعبر لكم عن عميق تقديري لحجم الشجاعة التي أبنتم عنها بينما كنتم تخطون أسطر رسائلكم. أجد نفسي مجبراً على الإشادة بها و الثناء على المجهود الفكري الذي تطلبه إنجاز عمل بهذه الأهمية، الدقة و الصراحة. تبرز الحاجة الملحة إليه في هذا الوقت بالتحديد الذي تقف فيه منطقتنا على أعتاب مرحلة حاسمة من تاريخها مع ما تفرضه ظرفية كهذه، منا جميعا، جسارة للمضي قدما نحو المستقبل بكل ثقة و نسيان أخطاء الماضي. ما قمتم به يزيل ستائر ظلت تلف تفكيرنا و تشل حركتنا و تزيد الوضع تعقيدا عوض البحث عن مخرج لسوء الفهم الكبير الذي سقط فيه العالمان اللذان ننتميان إليه أنا و أنت. عبر رسائلكم، كانت لي فرصة التعرف على وجهة نظر عبرتم عنها بكياسة و لباقة كبيرتان و من خلال هذه الرحلة الأدبية أيضا، سافرت عبر أزمنة مختلفة جسدت محطات مفصلية من التاريخ، و بأمانة منقطعة النظير، نقلت لنا ما يخالج أوساط متعددة من المجتمع الإسرائيلي و كذا الهواجس التي تقض مضجعه 

بحكم حداثة سني، يعود اهتمامي بموضوع الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين إلى الفترة الزمنية التي رافقت الانتفاضة الثانية. لم تنقطع عن الأخبار صور الضحايا من كلا الجانبين مع ما ترافقه من أحاسيس- ولو أن الكاميرات تعجز عن نقلها- تنفذ إلى الوجدان لأنها مليئة بالمآسي و متخنة بالحسرة. لم استطع أن أحدد بالضبط ما يتحارب حوله الطرفان و بدت لي، آنذاك، كل الأسباب تافهة و غير ذات معنى. حرصت فيما بعد، و طوال سنوات عديدة، على عدم محاولة فهم ما يقع أو أخذ موقف معين على اعتبار أن ذلك في نهاية المطاف لا يعنيني البثة مع أمل أن لا أرى مجدداً تلك الصور المفجعة

سيلعب القدر لعبته و ستتحول نظرتي للأمور بشكل جذري و ملموس و بمحض الصدفة. وصلت باكراً ذات صباح إلى مدينة بالجنوب الشرقي و توجهت مباشرة نحو الفندق. بينما كنت منهكا انتظر الصعود نحو غرفتي، لمحت من بعيد ثلة من الأشخاص كان كل واحد منهم ممسكاً بكتاب صغير الحجم بين يديه و مردداً بكل خشوع ترانيم كانت تكسر سكينة الأجواء وتضفي على المكان رهبة دينية لم تكن مألوفة لدي. حركني الفضول و اقتربت منهم في صمت خشية أن أقطع عنهم ما بدا لي أنها صلاة و بقيت أراقب الحركات التي يقومون بها محاولا أن أخمن ماذا يفعلون. انتظرت حين انتهائهم و توجهت نحو أحدهم أطلب تفسيراً لما كانوا يفعلونه في البهو فدعاني للجلوس وتبادلنا أطراف الحديث لما يزيد عن ساعة من الزمن. كنت قد وصلت لتوي بعدما قطعت مسافة مضنية تزيد مدتها عن عشر ساعات لكن كل التعب زال كلما تعمقنا أكثر في حديثنا أنا و الرجل، أذكر أنه أبدى طيبوبة كبيرة و أجاب على كل تساؤلاتي و من شدة اهتمامي بما حكاه لي نسيت حتى أن أسأله عن اسمه

كانوا مجموعة من اليهود المغاربة الذين قدموا لزيارة قبر أحد الحاخامات بمدينة أرفود يدعى شموئيل ابي حصيرة و ينحدر من نسله حاخام يحظى بتقدير كبير في أرض اسرائيل اسمه بابا سالي لما عرف عنه من ورع و تقوى. ظل الرجل يحكي لي عن تفاصيل شعرت بالحسرة إزاء عدم إحاطتي بها، و للتكفير عن ذنبي أخذت على نفسي فيما بعد أن أنفتح أكثر على اليهودية كثقافة طبعت تاريخ المغرب و تركت بصمة واضحة في رصيده الحضاري. كانت بالنسبة لي مغامرة في عوالم اكتشفها لأول مرة و سبر أغوار عميقة بدت لي أنها بلا حد أو نهاية، كلما غصت فيها إلا و زاد نهمي دون أن يشبع فضولي. تعرفت على الهالاخا، طرق تنظيم المجتمع، بعض التقاليد الموروثة، قصص بعض الحاخامات و العديد من التفاصيل التي جعلتني استنتج أن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا و أن رحمة الله أوسع من أن نتصارع حولها. زرت المتحف اليهودي بالدار البيضاء، وهو بالمناسبة الوحيد من نوعه في العالم العربي، وتحدث بشكل مباشر مع ممثلات وممثلين عن الطائفة اليهودية فاندهشت أمام حجم ما كنت أجهله لكنني عقدت العزم أن استمر 

وضعني ذلك بكل بساطة أمام مسؤولية أخلاقية تستوجب مني أن أهتم بما يقع في الشرق الأوسط، على الرغم من بعدي الجغرافي عنه، إذا أردت أن لا أرى مجدداً تلك الصور الأليمة التي شاهدتها و أنا طفل في الثامنة من عمره. إن أول ما يقوم به من ينشد السلام و يأمله هو أن يبدي حسن نية و يخطو نحو الطرف الآخر بعدما يكون قد أمضى وقتا في التعرف عليه دونما أحكام مسبقة مع الحرص على عدم إلغاء وجوده أو الانخراط في دعوات لا طائل منها للقضاء عليه. إن تعزيز الثقة و تقويتها هما الشرطان الوحيدان الواجب توفرهما خلال المسار الشاق و الطويل الذي سنقطعه لإحقاق السلام كما أن هذه الثقة لا يمكن لها أن تبنى إلا في ظل نشوء روابط انسانية أساسها الاحترام المتبادل و الصادق و تستمد قوتها من المنفعة المتبادلة

سيدي المحترم؛ 

أراسلك من أقصى غرب البحر الأبيض المتوسط، هذا الحيز الجغرافي الذي يختزل لوحده عمق التاريخ الإنساني و لازالت أمواجه تحتفظ بدروس يتعين علينا أخذ العبر منها. أخاطبك من أرض المغرب الذي آوى أكبر جالية يهودية في المنطقة العربية، وشكل مثالاً يحتدى به للتعايش في سلام ووئام بعيداً عن الصراعات التي كانت جد محدودة و لا تتعدى في الغالب طابع الاصطدامات القبلية التي كانت سائدة في المغرب آنذاك. أقصد هنا كون اليهود لم يكونو أبداً، باستثناء فترات متقطعة و جد قصيرة (خلال فترة حكم السلطان مولاي اليزيد)، هدفاً لسياسة تهدف إقصاءهم أو القضاء عليهم، بل على العكس من ذلك تماماً وفر لهم المغرب جوا مكنهم من التشبت بعقيدتهم و صيانتها

ولفهم مدى تأثيرهم ينبغي النظر في موروثنا الثقافي والذي تشكل عن طريق انصهار استثنائي بين عدة ثقافات وأديان، فصحيح أننا عرفنا كيف نحافظ على طابعنا المسلم لأنه دين الأغلبية لكن ذلك لم يمنع من التعامل بواقعية، شديدة وقل نظيرها، مع باقي الثقافات الأخرى

تفاصيل حياتنا اليومية كالغناء والأكل مثلا تقدم صورة بليغة للتمازج الذي حصل على مدى 3000 سنة بين الإسلام، العربية، الأمازيغية، اليهودية، الحسانية و لم نجد أدنى حرج في الاستفادة التي قد نحققها من الانفتاح على الثقافتين الفرنسية و الاسبانية على الرغم من الظروف السيئة التي طبعت بعض الفترات من علاقتنا بتلك الدولتين. قدر المغرب أن يكون أرضا للأحرار وساعده موقعه الجغرافي خلال كل هذه القرون في أن يصير بمثابة الملتقى الذي يربط بين عوالم مختلفة. نجح المجتمع المغربي بكل بساطة في الاستفادة من كل مكوناته بما فيها الأقليات فبنينا تاريخنا انطلاقا من كوننا بالأساس أمة سلام تبحث عن الإزدهار والرخاء. تمتع اليهود بحقوق المواطنة كاملة وردوا الجميل بأن كانوا عنصراً ساهم بايجابية و فعالية في المجتمع الذي كانوا جزءاً منه 

حينما اطلعت على رسائلكم، انتابني شعور بالحيرة إزاء ما تصفونه على اعتبار أن ذلك الوضع غريب و معقد بالنسبة لي كمغربي ينتمي لبلد يعتز بكل روافده الثقافية لدرجة أنه يعترف بها جميعا في دستوره. حينما كانت بعض قوى الظلام تكتب أكثر فقرات تاريخ اليهود مأساوية بارتكابها للمحرقة، وقف ملك شجاع اسمه محمد الخامس في وجه السلطات الاستعمارية ورفض تسليم أي يهودي وجعلهم تحت حمايته الشخصية. ذهبت قوى الظلام تلك غير مأسوف عليها لكن التاريخ حفظ ذكرى موقف شهم و إنساني لرجل نبيل رفض أن يمس مواطنوه بسوء. تفاجأت كذلك بعدما اطلعت على حجم الاحترام الذي يكنه بعض الاسرائيليين من أصول مغربية للملك الراحل الحسن الثاني لدرجة تكريمه بوضع صورته في إحدى الطوابع البريدية و تخليد ذكراه عبر تسمية شوارع باسمه في  كريات عكرون و بيتح تيكفا. هو نفس الملك الذي حضر جنازته كل من ايهود باراك، بيريتز وعرفات و كانت أعز أمنية لديه أن يساهم في تحقيق  السلام بين الفلسطينيين و الاسرائييلين بعدما كان ممن وضعوا، في صمت، أسس أول اتفاق بين اسرائيل و مصر

تمكنت من خلال رسائلكم أيضا أن أضع كلمات دقيقة لوصف ما كان مبهماً، مشتتاً و بمعالم غير واضحة في ذهني بعدما صرت أتوفر على معطيات متوازنة تعبر عن وجهات النظر الخاصة بكل طرف. يبدو لي أننا أمام حالة فريدة وغير مسبوقة في التاريخ بين جهة خسرت حرباً منذ سنوات عديدة و لا تريد أن تصدق ذلك و بين دولة تخاف أن يتحول فوزها إلى نصر بيروسي يكبدها تكاليف باهضة الثمن لأن في الطرف الآخر قوى تدفع نحو استدامة الصراع على الرغم من أنها تدري جيدا أن في ذلك انتحاراً مؤكداً لها و لشعبها

نفسية المنهزم في بعض الأحيان قد تكون أكبر عائق أمام أي حل لأنها تدعوه إلى رفض التسليم بالأمر الواقع فيبحث آنذاك على مبررات لإطالة أمد التوتر عوض التعامل مع الخيارات المتاحة بشكل أكثر براغماتية. أعتقد أن جزءا من ذلك يعود إلى غياب الشرعية للقيادة الفلسطينية التي تبدو متجاوزة و عفا عنها الزمن و لأنها استهلكت كل رصيدها في التأرجح فوق الحبال سعياً منها إلى ضمان استدامتها السياسية فقط عبر تأجيج الوضع

ربما قد تكون الديمقراطية، إذا ما التزم بها الفلسطينيون، سبيلا لحل واقعي على المدى الطويل مادام بين الفلسطينيين أنفسهم من يريد أن يضع حدا لهذا العبث الذي طال أمده. أتوقع مقاومة شرسة لهذه الفكرة من الجيل الذي لم يقدم شيئاً للفلسطينيين سوى ارسالهم لمواجهة الموت معتقدين أن ذلك هو ما قد يخلصهم لكنم ينسون، وهم في طريقهم لارتكاب جرائمهم، أن من أرسلهم لا يأبه أصلا بحياتهم ولا يرى فيها سوى وسيلة للبقاء في السلطة. في المقابل، يبدو لي إحقاق السلام أحيانا مسألة صعبة بالنسبة للطرف المنتصر أيضاً لأنه، و بشكل لا شعوري، يؤمن بأن القوة وحدها حل لكل المشاكل، وكم من المشاكل بالإمكان حلها عن طريق السياسة فقط! في كلتا الحاليتين، أرى غيوما من الخوف تحلق فوق الأجواء مما يجعل الكل مرتابا إزاء الكل

سيدي المحترم؛

تلك التفاصيل التي حكيتم عنها أو تلك الأماني التي رجوتم حدوثها جعلتني أفكر في احتماليتها. حتى أكون صادقا معكم، أعتقد أنها تتطلب وقتا كبيراً و “جهداً يفوق ذلك الذي بذله أجدادكم لبناء الأهرامات” بتعبير مناحيم بيغن. لقد كان قدر الجيل الأول من المؤسسين في دولة اسرائيل أن يضمنوا تحقيق نبوؤة نابعة من إيمان ديني خالص، جعلت الأجيال التي تلت من ذلك الحلم أمرًا واقعاً و عملت بلا كلل لتحول صحراء قاحلة إلى واحة تنعم بالازدهار و متفوقة في مجالات عديدة. قدر الجيل الحالي أن يعبد طرق السلام بالمنطقة و يجعل من التعايش أمراً ممكناً 

أعتقد أيضاً أن بداية ما يمكن أن يصير حلاً دائما تكمن في فهم كل واحد للآخر حتى تترسخ القناعة التي مفادها أن كل دولة مجبرة على اتباع السياسة التي يفرضها معطى لا يتغير أبداً: الجغرافيا. من الواجب العمل على خلق منطقة تكامل اقتصادي تساعد الفلسطينيين على إدراك البدائل المتوفرة لديهم في حالة تخليهم عن الخيارات التي يتبعونها حاليا، والتي أبانت عن فشل ذريع لحد الآن. من شأن الاقتصاد أن يكون مدخلاً للحل اعتباراً للمقولة التي تفيد بأن الحدود إن لم تعبرها السلع، فالجنود هم من سيعبرونها. سيؤدي ذلك إلى نوع من تشبيك المصالح وسيعزز التبادل والثقة ويجعل كل من دولة اسرائيل ودولة فلسطين تدركان أن مواجهة تحديات المستقبل تتطلب سلاماً براغماتياً 

أشكركم مرة أخرى على تلك الرسائل القيمة كما أتمنى من خالص قلبي أن أحظى ذات يوم بفرصة الحديث بشكل مباشر معكم 

أيوب من المغرب

4/1/2020