حول كتاب رسائل إلى جاري الفلسطيني

بقلم: رمزي ناري

 

عشرة رسائل كتبها ووجهها الكاتب والباحث في الشؤون اليهودية والإسرائيلية يوسي كلاين هاليفي إلى جاره الفلسطيني في كتاب ممتع أسماه “رسائل إلى جاري الفلسطيني”. ولأن الكاتب هاليفي هو أديب يهودي متدين، فقد جاءت رسائله هذه عاكسة روح هذا التدين في جميع صفحات الكتاب التي تجاوزت المائة بقليل. وكان الكتاب  جسراً روحيّاً قبل أن يكون سياسيّاً لإيصال رسائله إلى جاره الفلسطيني. وقد يكون هذا الجار إنساناً طيباً متسامحاً، فيقبل على قراءة هذه الرسائل ويفتش بين سطورها وحروفها عمّا يمكن أن يبني عليه ليؤسس رأس جسر من جانبه، ذلك الجسر الذي حاول هاليفي أن يبنيه من طرفه ويمده نحو ذلك الجار القابع فوق تلته خلف الجدار الفاصل بين الأثنين. وأمثال هذا الفلسطيني – برأيي – قلّة قليلة، كالعملة النادرة. أو يكون جاراً من نوع آخر، فيقوم بتمزيق الرسالة تلو الأخرى حتى قبل أن يقرأ عنوانها، فما بالك بقراءة تفاصيل كل منها. وللأسف الشديد هؤلاء هم الأكثرية.

ومع ذلك، لم ييأس صديقنا هاليفي من كتابة رسائله. ففي نهاية الأمر يعلم جيداً أن هناك من سيهتم بها ولو بالخفاء وسيقرأها ويتفاعل معها، وهذا أضعف الإيمان

في الكتاب طرح جريء من قبل الكاتب في إبداء تعاطفه الحقيقي مع جاره الفلسطيني المسلوب حقه في أرضه، ودعوته لتقاسم الأرض ورفع الظلم المرافق لوجود الاحتلال الإسرائيلي لأراضي الفلسطينيين، شركائهم في الأرض والتاريخ

في رسالته الأولى المعنونة “الجِدار الذي يفصل بيننا”، يظهر فيها التفاوت بين حقوق كلا الجارين. فالكاتب الإسرائيلي يتمتع بحقوق كاملة من المواطنة في دولته بينما جاره الفلسطيني محروم منها، وهذا أحد أهم أسباب التفاوت بينهما الذي يؤلم هذا الجار الإسرائيلي. فحاول أن يجد بعض القواسم المشتركة لتقريب الفجوة بينهما، فحدثه عن المشتركات بين الديانتين اليهودية والإسلامية. والمعروف أن العامل الديني يشكل خاصرة عاطفية رخوة لدى المواطن العربي، والمقصود به هنا المواطن الفلسطيني، يمكن من خلالها التمهيد لبعض أنواع الحوار والحديث

ويبدو أن الكاتب قد أعطى مساحة كبيرة من هذا الجانب الروحيّ في رسائله الموجهة لجاره الفلسطيني. وكان من الأولى به أن يقلل بعض الشيء من الإشارة لهذه المشتركات. لكنني أعذره بسبب خلفيته الدينية، ولا أعرف إن كان غالبية المتدينين من اليهود الإسرائيليين يشاركونه هذا التوجه. وقد انعكست خبرته الدينية في تواصله مع العديد من الشيوخ الفلسطينيين المسلمين، وهذا أمر جيد يُحسب له. لكن لدي مأخذ على الكاتب في هذه الرسالة وهو كثرة تكراره الأمور المتعلقة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني وتركيزة على مظلومية الجانب الفلسطيني بشكل أضعفت مواقفه الدفاعية – أي الإسرائيلي – عن قضيته

وفي رسالته الثانية “الحاجة والحنين”، اختلط التاريخي بالديني. فكانت رسالة جميلة بحق. بدأها الكاتب بقصتي هدم الهيكل اليهودي في المرّة الأولى على يد الملك البابلي نبوخذ نصّرسنة 587 قبل الميلاد، وبداية السبي البابلي لليهود، والمرّة الثانية التي هُدم فيها الهيكل سنة 70 بعد الميلاد على يد الإمبراطور الرومانيّ تيتوس، وبداية الشتات اليهودي في شتّى بقاع العالم. ومعاناتهم في دول الشتات لآلاف من السنين حتى قيّض لهم الله العودة إلى أرضهم. ورغم الجهد الذي بذله المؤلف في سرد الوقائع التاريخية لمعاناة الشعب اليهودي، لكنني أشكّ كثيراً إن كان جاره الفلسطيني سيتعاطف معه في معاناته ومعاناة شعبه، فالعربي غير الفلسطيني كما أراه أقرب للتعاطف وتفهم هذا الموقف من الفلسطيني بالذات

ونحو “القدر والمصير”، تأخذنا رحلة المؤلف في رسالته الثالثة للتعرف على اليهود واليهودية. وهنا أيضاً لجأ السيد هاليفي للحديث عن القواسم التي تتشاركها الديانة اليهودية مع الديانتين المسيحية والإسلامية كديانات توحيدية، وما تتميز به الديانة اليهودية عن كلتا الديانتين الإسلامية والمسيحية. فخصوصية الديانة اليهودية أنها أرسلت لفئة معينة ومحددة من البشر، لا للبشرية جمعاء. ولا تنتظر من باقي البشرية أن تدين بها، وفي هذا سرّ قوتها في إبقاء اليهود كأمّة واحدة رغم تعرضهم للأضطهاد على مرّ العصور. في هذه الرسالة سرد تاريخيّ لبعض أسفار العهد القديم (التناخ) كسفر راعوث الجميل، وفكرة شعب الله المختار. وبرأيي، فإن أكثر ما يغيظ المواطن العربي بشكل عام، والفلسطيني بشكل خاص أن تقول له أنك من شعب الله المختار. فقد علمونا منذ صغرنا في المدارس أن نحتقر هذه الجملة، وصارت مرادفاً لكراهية الشعب اليهودي

وفي الرسالة الرابعة “الرواية التاريخية والوجود”، استعراض لجانب من تاريخ دولة إسرائيل الحديث، والحروب التي قامت بينها وبين الفلسطينيين في القرن العشرين، ونتائج تلك الحروب على الأرض، وما تكبده كل جانب من خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات. أظهرت الرسالة عبثية تلك الحروب بسبب تعنت هذا الجانب أو ذاك، وبالذات الجانب الفلسطيني الذي فرّط بالعديد من الفرص الثمينة أضاعت عليهم مستقبلاً كان طوع اليد، بل وأقرب من ذلك. ويعود الكاتب ليؤكد أنهما، الإسرائيلي والفلسطيني قريبون جداً من بعضهما البعض ويكاد كل منهما أن يسمع أنفاس الآخر، وليس أمامها من خيار سوى إنهاء الصراع واقتسام الأرض بينهما. فهل يُصغي الجار الفلسطيني هذه المرّة لهذا النداء؟

أما الرسالة الخامسة “ستة أيام وخمسون سنة”، فبقدر ما فيها من فرح للجار الإسرائيلي لكنها مليئة بالحزن والإنكسار للجار الفلسطيني. وليس أشقّ على الفلسطيني من أن تذكّره بحرب الأيام الستة واحتفال الإسرائيليين بيوم القدس. أتكلم بواقعية فأقول أن حرب الأيام الستة ربما أعادت للعرب بعضاً من رشدهم كالصفعة، على فشل شعارات رسّخوها في أذهاننا ونحن أطفال، في بيوتنا قبل مدارسنا أن العرب سيرمون الإسرائيليين في البحر. كانت خرائط فلسطين تعلق في صفوف مدارسنا إلى جانب خرائط دولنا العربية. وكان أساتذة الجغرافية والتاريخ يشرحون لنا ويقارنون بين مساحة “دويلة إسرائيل” والدول العربية وكنّا نصدق تلك الحقيقة حتى جاء اليوم الذي أفقنا فيه من ذلك الحلم الوردي الذي انقلب كابوساً أسود

وعن “اقتسام العدالة”، كانت رسالة هاليفي السادسة إلى جاره الفلسطيني. وفي بدايتها يتساءل كيف بإمكانهما إنهاء دوامة الإنكار والتجاهل القائمة بينهما؟ ورغم الجهد الكبير والشرح الذي أورده الكاتب لإقناع جاره الفلسطيني عن رؤيته لحلّ الدولتين، الذي سيضع حدوداً لأحلامهم، أي العرب والإسرائيليين، لأنه لا يمثل فقط تقسيماً للأرض، بل هو تقسيم وتجزأة للعدالة أيضاً بين جانبين يدعي كل منهما أحقيته بملكية الأرض والوجود عليها. وأتخيّل أنني أعرف جيداً الرد الفلسطيني على هذه المقترحات، وهو الرفض التام. وتبقى بحاجة إلى معجزة لتقنع جارك الفلسطيني أن يقبل بمقترحك، بينما هو يضيّع الفرصة تلو الأخرى

وننتقل إلى رسالة دينية وتاريخية جميلة جداً، هي الرسالة السابعة “إسحق وإسماعيل”. يبدو أن السيد هاليفي  – وبسبب خلفيته الدينية – لم يترك أمرأً جيداً وعاطفياً إلاّ وشارك به جاره الفلسطيني، فلجأ وبذكاء لكل ما هو مشترك في التاريخ الديني الذي يجمع بين اليهودية والإسلام. وفي فقرات من هذه الرسالة وغيرها كنتُ أحسّ بأن الكاتب مسلماً أكثر مما هو يهودياً متديناً. وانهما، اليهودي والمسلم أبناء إبراهيم الخليل الذي دُفن على يد إبنيه إسماعيل وإسحق معاً. لهذا أرجو من الجار الفلسطيني أن ينصت جيداً لما حملته هذه الرسالة الرائعة من معانٍ عميقة

ومن الدين إلى السياسة يعود الكاتب فيكتب رسالته الثامنة “التناقض الإسرائيلي”. بالنسبة للجار الفلسطيني لن يهمه تساؤلكم يا سيد هاليفي هل تُعد إسرائيل دولة علمانية أم أنها دولة قائمة على أساس ديني؟ لقد بذلتَ جهداً كبيراً في محاولة إقناع جارك الفلسطيني بوجهة نظرك، واستثمرت في الدين والتاريخ، وما هو مشترك بين الديانتين اليهودية والإسلامية، لكنني لا أريد أن أسبب لكَ أي قدر من الإحباط. لأن المشكلة أنكَ تخاطب عقلية عربية جامدة بعقلية غربية، حتى ولو بعد مضي سنوات طويلة من قدومك إلى إسرائيل واكتسابكَ صفة مواطن يهودي إسرائيلي. وحتى استطلاعات الرأي التي حاولت أن تشارك جارك بها التي تشير إلى رغبة غالبية المواطنين اليهود التقليل من سنّ التشريعات الدينية، وحديثك عن الصراعات الداخلية الإسرائيلية، والهوية التي يجب أن تعتزّ بها إسرائيل أكبر من تهمّ مواطن فلسطيني ينتظر اللحظة المناسبة للإنقضاض عليك في غفلة ما من الزمن متى ما أحسّ بضعفك

وفي رسالتك التاسعة “الناجون والضحايا”، فكأنكَ وأنتَ تحدث جارك الفلسطيني عن ذكرى المحرقة اليهودية “الهولوكوست”، كأنك كنت تحرقه بنار هذه المحرقة التي ينكرها جارك ومن حوله كل العرب. لا أخفيكَ ألمي الشديد وأنا الذي قرأت التاريخ جيداً بسبب هذا الفعل الشنيع الذي أؤمن حقاً أنه حصل، أن هذا الفعل و عبارة “شعب الله المختار” كلاهما يشكلان عقدة كبيرة في التواصل بينكَ وبين جارك الجالس على تلته خلف السياج، الذي ينظر نحوك من شاشة المواجهة بين داوود وجالوت وليس العكس. كان بالإمكان تجاوز الكثير من هذه الأفكار في مخاطبة ذلك الجاريا سيد هاليفي

ونأتي لرسالتكَ الختامية، الرسالة العاشرة “خيمة في طرف الصحراء”، فقد عدت هنا للأجواء الدينية والشاعرية في وصف ممارسات عيد السوكوت مستذكراً من خلاله رحلتكم – أي الشعب اليهودي الإسرائيلي – من صحراء سيناء عبر الأرض والزمن حتى وصل أخيراً أرضه الموعودة. صدقني عزيزي الكاتب، إن نواياكَ تجاه جارك الفلسطيني كانت أخوية ووديّة وأنتَ تستعرض له بكل خلفيتكَ التاريخية والدينية والثقافية تاريخ الشعب اليهودي منذ ما يقرب من الـ 4000 سنة وحتى يومنا هذا، فإنني لا أرى بصيص أمل أن يرّد على رسالتكَ بمثلها، بل أتخيله يرمي بها جانباً، إن لم يقم بتمزيقها قبل أن يقرأ حتى عنوانها. قلتُ أنني لا أريد أن أحبطكَ، وأنتَ قد سعيتَ بإخلاص وكتبت ربما لجار واحد قد يتجاوب معك من بين آلافٍ من الجيران. كانت دعوتكَ صادقة وأمينة وهذا جهد فرديّ عظيم أتمنى أن أرى ثمرته تنضج حقاً فوق شجرة يسقيها كل من الإسرائيلي والفلسطيني فوق أرض واحدة

 

مداخلة خارجية

 

بعد قرائتي لهذه الكتاب الرائع والجهد الكبير المبذول في تدوين وقائعه، أود أن أشارك بعضاً من وجهات نظري عن اليهود أنا الرجل المسيحي العربي من العراق

كانت المرّة الأولى التي أسمع فيها عن اليهود في فترة طفولتي المبكرة جداً. ولم أكن أدرك ماذا تعني هذه الكلمة لكنها كانت تتردد بكثرة في منزلنا. كان في بيتنا بعض القطع من الأثاث علمت أن أهلي قد اشتروها من يهود عراقيين تعرضوا للأضطهاد ومحاولات القتل في فترة مظلمة من تاريخ العراق في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، اضطروا بسببها لتصفية أعمالهم وبيع ممتلكاتهم ومغادرة العراق للنجاة بحياتهم. كان عندنا ايضاً مجموعة من الأثاث الفاخر محفوظاً في غرفة لم نكن نستخدمه لأن أصحابه من اليهود كما أخبرتني والدتي تركوه لدينا أمانة على أمل أن يعودوا يوماً ما بعد هدوء الأحوال لاستلامه، لكنهم لم يعودوا أبداً ولا أعرف ما حصل لذلك الأثاث خلال السنوات التالية

لدي ذاكرة جيدة عن أحداث مرّت في طفولتي، أذكر منها عندما أخذتني جدتي إلى مدرسة للراهبات لتسجيلي في مرحلة الصف الأول الإبتدائي، كانت هناك سيدة ومعها طفلة صغيرة تريد أن تسجلها في المدرسة، لكن الراهبة – ضيّقة الأفق – كانت ترفض وتقول للسيدة الباكية والدة الطفلة أنتم يهود صلبتم يسوع المسيح ولن أسجل إبنتكِ في المدرسة. لعلها كانت أول حالة اضطهاد ضد اليهود أعيشها في حياتي. والحالة الثانية عندما كنتُ في الصف الثاني الإبتدائي في مدرسة أخرى انتقلتُ لها، كانت زميلتي التي تجلس بجانبي أسمها (جحلة صالح) وكنت أشاركها السندويشة التي تضعها لي والدتي في شنطتي مع حبة التفاح أو الموز لأنها كانت فقيرة جداً وكانت تطلب مني ذلك. لم أكن أعرف سبباً لبكائها كل يوم إلا عندما كان بعض الأطفال يسخرون منها لأنها كانت يهودية وينعتونها بألفاظ مؤذية. وكنت أحسّ بالألم الشديد بسبب هذا التمييز

ولعل أقسى ما رأيته من اضطهاد ضد اليهود العراقيين كان في كانون الثاني سنة 1969 عندما كنـتُ طالباً في الدراسة الثانوية، وقتها أعدم مجموعة من رجال الأعمال والطلاب اليهود العراقيين، بعضهم كانوا أصدقاء لوالدي وأعرفهم شخصياً بدعاوى التجسس الظالمة. منهم تاجر الأواني المنزلية عزرا ناجي زلخا، وموظف كان يعمل مع والدي يدعى فؤاد كباي وآخر كان معه أيضا يدعى يعقوب كرجي نامردي. خسروا حياتهم مع غيرهم بسبب كونهم يهوداً لا غير

هذا مختصر لما أتذكره الآن، أعاده لذهني تفاصيل كتاب السيد هاليفي، وكم أتمنى حقاً أن نجد هناك جيراناً من الفلسطينيين أو العرب الآخرين لديهم الجرأة الحقيقة لقراءة هذه الرسائل. ليس قرائتها فحسب، بل والرد عليها بأحسن منها. وباعتقادي أن أفعال التقارب الأخيرة بين إسرائيل وبعض الدول العربية ودول أخرى ستأخذ مبادرات شجاعة مماثلة لبناء علاقات طبيعية مع إسرائيل في المستقبل القريب ستجعل الفلسطيني يدرك حقاً أهمية هذه الرسائل إذا لم يكن قد قرأها بعد

أرجو إبلاغ تحياتي ومودتي للسيد يوسي هاليفي وأتمنى الحصول على باقي كتبه لقراءتها

رمزي ناري