أخي العزيز يوسي

لقد كنتُ في يومٍ من الأيام أحدَ جيرانك الذين يسكنون بجوارك، أي واحداً من هؤلاء الفلسطينيينَ الذين تخاطبهُم عبر كتابك، إلا أنّ عائلتي قررتَ الرحيل إلى المملكةِ المتحدة لنسكنَ بجوار مجموعةٍ من أقاربنا هنا. لقد اخترتُ أن أخاطبكَ بـ” أخي” لأننا لم نعد جيراناً منذ ذلك الحين، لكنني أشعرُ أننا كفلسطينيين وإسرائيليين، مسلمين ويهود، بمثابة إخوةٍ بعيدين عن بعضهم البعض 

ولأكون صريحاً معك، فقد اعتدتُ أن اصفكَ بأنك “جاري” الذي أعتبره عدوّاً لدوداً لي، اعتدتُ أن أراك كالشيطان ذاتهِ، لكنني فخورٌ بنفسيَ الآن كوني أسيرُ على طريقٍ مُختلفٌ، طريقٌ أحررُ فيه نفسيَ من هذه الكراهيةِ التي لا أرغبُ لها أن تستنزفَ مني أكثرَ مما استنزفَت حتى الآن 

إنني أمضي في طريقٍ شاقٍ ومؤلمٍ ومستمرٍ لكي أتعلّم كيف أحترمُ الآخر وكيفَ أصغي وأستمعُ له دون أن أردّ عليهِ قبل أن أفكر مليّاً بما قال، أريدُ أن أتعلّم كيفَ أكونُ أكثرَ تسامحاً وأقلّ حِديّةً في تعاملي مع الآخر، أريدُ أن أتعلّم هذا من أولئكَ الذينَ تربّيتُ على كراهيتهِم لسنينَ طويلةٍ، فهُم الذين يعلمونني الآن كيف أنظرُ إلى  الأمور من منظورٍ جديد، والأهم من هذا كلّه أنني أتعلّمُ كيف أشعر بأني لستُ أقلّ شأناً من الآخرين، خاصة بعد التجارب الشخصيّة المريرةِ التي خضتُها في ذلكَ الواقع المعقّد خلال الصراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ

وبإمكاني أن أقولَ لكّ بأنني أمُتنعٌ قناعةً تامّةً بأننا كفلسطينيينَ وإسرائيليينَ جميعنا بشرٌ بنهاية المطاف، لكننا ومع الأسف عالقونَ في هذا الصراع العبثي، وكمقدّمةٍ لتعقيبي على كتابكَ فإنني أودَ أن أحدّثكَ عن نفسي قليلاً.  أوّلاً وقبل كل شيء فإن الاسم الذي اخترتُه للتعبير عن نفسي – يوسف – هو ليسَ اسمي الحقيقي. وان كنت على دراية بكيفيّة التسميةِ العربية فإنك تعرفُ بأننا نُكنّى عادة باسمٍ رباعيّ يبدأ بالاسم الأوّل مروراً باسم الأب ومن ثم الجدّ وانتهاءاً باسمِ العائلة، ويوسف هو اسم جدّي، هذا الاسمُ الذي اخترته لنفسي كاسمٍ مستعارٍ نظراً لعدمِ قدرتي على الإفصاح عن اسمي الأوّل، إلا أنني وفي الوقتِ نفسه أردتُ اختيارَ اسمٍ يمثّلني ويعبّر عني مثل اسم جدّي يوسف رحمه الله، هذا الرجلُ الذي كان طيّب الخلقِ مُتّزنَ التفكير، كان رجلاً صبوراً هادئاً، والأهم من هذا كله أنه كان يمتلك قدراً كبيراً من الحِكمة

لماذا لم أُفصِح عن اسمي الأوّل؟ إنني استذكرُ مقولةَ جدّي الذي كان يقول في مثل هذه الحالة : ” القليلُ أفضلُ من الكثير”. في الواقع فإن حساسيّة الواقع الموجودةَ على جانبنا من الصراع – والتي وصفتها وتحدّثت عنها في كتابك – تمنعني من أن أعبّر عن نفسي وأفكاري بحرّية ، بالتالي ومن أجل أن أعبّر عن نفسي بحرّيةٍ أكثرَ فقد اخترتُ اسماً آخَر، لأن الهدف بالنهايةِ ليس الاسم بقدر ما هو ايصال الأفكار التي أودّ منكَ سماعها، ولربّما نتمكّنُ من أن نلتقي بعضنا البعض وجهاً لوجه يوماً ما في المستقبل القريب دون أن يتملّكني ذلكَ الشعورُ بأنني أخونُ شعبيَ الفلسطينيّ الحبيب. إن تقبّلَ القيودُ والمُحدّدات التي تحيطُ بي هو جزءُ مهمٌ من حياتي، وقد تعلّمتُ بعد تجربةٍ طويلةٍ بأنه ليسَ بامكاني أن أحاربَ أنظمةً كبيرةً بمفردي 

ثانياً، لماذا أخاطبكَ باللغة الانجليزية لا باللغةِ المُحبّبةِ إلى قلبي، لغتي الأم اللغةُ العربيّة؟
في الواقع فقد قمتُ بتحميلِ النسخةِ المترجمةِ للغّة العربيّة من كتابكَ والمتاحةِ للتحميلِ مجاناً، وقد بدأت بقراءتها فعلاً، إذ لفتَ انتباهي كيف أنك تحاول التواصلَ معنا بلغتِنا الأم – اللغة العربيّة – آملاً أن لا تُشكّلَ اللغةُ عائقاً أمام هذا التواصل، لكنني قمتُ لاحقاً بشراء النسخةِ الورقيّة لكتابكَ والمكتوبةِ باللغة الانجليزيّة لأنني أردتُ أن أقراً الكتابَ بلغتهِ الأصليّة وأن أعقّب عليه باللغة الانجليزيّة ايضاً، هذه اللغة التي أصبحَت جزءاً لا يتجزّأ من حياتيَ اليوميّة 
بالتالي فإنني أنتظرُ وبكل لهفةٍ قراءة ترجمةَ تعقيبي إلى اللغةِ العربيّة لكي أرى كيف كان بإمكاني التعبيرُ عن نفسي وأفكاري بلغتي الأم، اللغة العربية

وبالعودةِ الى قصة حياتي التي اريدأن احدثك عنها، فإنني وعندما كنتُ في الضفّة الغربية خلال فترة مراهقتي كنت أكنّ لكَ قدراً كبيراً من مشاعرِ الحقدِ والغضبِ والكراهيّة كيهوديّ إسرائيليّ لطالما كنتُ أراهُ مُستعمراً لبلادي. لطالما كنتُ أتساءل: من يكونُ هذا اليهوديّ؟ وسواءاً كان أوروبياً أو من أصولٍ شرقيّة، من هوَ حتى يستوليَ على أرض أجدادي وبيوتهِم وممتلكاتهِم وحياتهِم؟! لقد كنتُ حينها مستعدّا للمشاركة في اية مظاهرةٍ ضد جيشِك عند اقتحامهِ لقريتي حيث أسكُن، كنتُ أريد رؤيتَك وأنت تتألّم، كنتُ أريدُ طردَك من هذه الأرض

لم يكُن الأمر مختلفاً بعد انتقالنا للعيش في أوروبا، إذ انضممتُ للعديدِ من المجموعات المناصرةِ والمؤيّدةِ للشعبِ الفلسطينيّ وكنت مستعدّا للدخولِ في صِدامٍ مع أي إسرائيليّ وأي صهيونيّ أقابلهُ سواء على أرض الواقع أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أردتُ أن أصبّ جام غضبي وحقدي عليهم

إنني في الحقيقة لا أعتبرُ نفسي إنساناً عنيفاً بطبيعتي، لكنني نشأتُ وترعرتُ في واقعٍ قاسٍ ومرير محاطٍ بالعنف من كل حدٍ وصوبٍ، الأمرُ الذي جعلني أكرهُ كلّ شيءٍ حولي، العنفُ الذي رأيته داخل المجتمع وحتى من داخلِ العائلة نفسها، اضافة إلى العنف الذي يرتكبهُ جيشُك، جميعُ هذه الأمور جعلتني أوجّهُ حقدي وغضبي صوبَ اليهودِ الإسرائيليين، وهو الأمرُ الذي كان يشجّعهُ ويرحّبُ به مُجتمعيَ الفلسطينيّ الذي كنتُ أعيشُ فيه آنذاك

أما عبرَ وسائل التواصلِ الاجتماعي وخلف لوحات المفاتيح وشاشات الحاسوب فقد بدأتُ شيئاً فشيئاً أتعرّفُ على عدوّي، إذ بدأتُ اتفاعلُ وأتواصلُ مع الإسرائيليينَ عبر صفحاتِ ومجموعات موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وما أدهشني فعلاً هو سِعةُ الصدر التي تحلّى بها مَن كنتُ أتناقش وأتحدّثُ معهم آنذاك، الأمرُ الذي جعلني أتساءل بيني وبين نفسي: لماذا؟! لماذا يُعاملني هؤلاءِ الصهاينة الشياطين بكلّ أدبٍ ولطف؟! ولأكون صريحاً معك فإن ما تبادرَ إلى ذهني حينها هو أن هذا الأدبَ واللطفَ والتهذيبَ هو حيلةٌ من حيلهِم الماكرةِ لغسلِ أفكاري من أجل تمرير أكاذيبهِم ودعايتهِم المضلّلة الكاذبةِ عبر وسائلَ منمٌقة ومُحترمة 

لاحقاً قامَت امرأة يهوديّة اسرائيليّة عرَفَتني عن نفسها موضّحةً بانها تعملُ معكَ ضمن طاقمِ عمل الكتاب، قائلةً لي بأنك تودّ دعوتي لقراءةِ الكتابِ، فقلتُ لنفسي: “انّهُ صهيونيّ لطيفٌ آخرُ يُحاولُ التودّد إليّ بهدف قراءةِ المزيد من الأكاذيب الصهيونيّة المُضلّلة”. في الواقع لم يكُن لديّ أي نيةٍ لقراءة كتابٍ ككتابك، هذا الكتابُ الذي ألّفهُ يهوديّ مُتديّن مُتذرّعاً بمخاطبتنا بأننا “جيرانهُ”. لاحقاً قامَت المرأةُ ذاتها بدعوتي لمتابعة صفحة الكتابِ على موقع الفيسبوك فقمتُ بمتابعتها من باب الفضول لا أكثر 

وبعد مضيّ عدةِ شهورٍ حيثُ كنتُ قد تابعتُ بعضاً من محتوى صفحة الكتابِ على الفيسبوك وقرّرتُ تحميلَهُ قبلَ أن أقرأِالردود والتعليقات وقبل حتى أن أقرأ تعقيبات القرّاء على الكتاب عبر الموقع المخصص له. لقد استفزّتني العديد من الردودُ والتعليقات التي قرأتها، استفزّتني جداً لدرجة أنني كنتُ استشيطُ غضباً حينَ كنتُ أرى تعليقاتَ أولئكَ العربِ المُتجرّدين من أي انتماء للعروبة! أولئكَ السعوديونَ والسوريونَ المنافقون الذين يحاولون التودّد إليكَ ولغيركَ، فأصبحوا أصدقاءاً ومؤيدين للكيانِ الصهيونيّ! قلتُ لنفسي يجبُ عليّ أن أقرأ هذا الكتابَ حتى أتمكّن من ارسال تعقيبٍ صادقٍ كوني فلسطينياً عاشَ الواقع وعانى من هذا الصراعَ، لا كأولئكَ العربِ الذين لم يكترثوا بأمرنا أبداً، أولئك العربُ الذين يفكّرون في مصالحهِم فقط، والذين لطالما نظروا الينا على أننا عبءٌ ثقيلٌ جاثمٌ على صدورهِم

 قلتُ لنفسي: يجب عليّ ألا أجعلَ ردودهم وتعليقاتهم تستحوذُ على الصفحة، فبدأت البحثَ عن اسم كتابك عبر محرك البحث غوغل فوجدتُ بعضاً من الردود والتعقيباتٍ لقراءٍ فلسطينيّين، كما وجدتُ ردوداً وتعقيباتٍ شعرتُ بأنها تمثّلني إلى حدٍ ما، الأمرُ الذي زاد من فضولي لقراءة كتابك

وبالمناسبة، أنا انسانٌ يحبُ القراءة كثراً، حيثُ أشتري الكتبَ وأبدأ بشمّ تلكَ الرائحة المميزّة التي تملؤُ صفحاتِ الكتب الجديدة التي لم يسبق لها ان فتحت أو استعملت أبداً، لكن ومع الاسف فان النسخة المتوافرة لكتابكَ هي نسخة الكترونية يجب علي قراءتها عبر شاشة الحاسوب، بالتالي لم اشتمّ أي رائحة ورقٍ جديدة كالمعتاد، لكُن هذا لم يثبّط من عزيمتي لقراءة كتابك 

وعلى أي حال ، فإنني وفي خضمّ النقاشاتِ التي كنتُ اخوضها مع الإسرائيليين اليهود عبر الانترنت قد تمكّنت من بناء علاقاتِ صداقةٍ تجمعني معهُم، وقد نجحتُ بشكلٍ خاصٍ  في التعرّف على صديقٍ يهوديّ إسرائيليّ أمريكي الأصل – مثلك تماماً – حيثُ هاجرَ إلى إسرائيل قبل عدة سنوات، وهو بالمناسبة يسكنُ مدينةَ القدس، مثلك أيضاً. لقد كان هوَ الصديقَ الوحيد الذي حدّثتهُ وتناقشتُ معه حول هذا الكتاب رغم أننا لم نلتقِ وجهاً لوجه، وباعتقادي أن المسافة الفاصلة بيننا جعلتني أطمئن إلى حدٍ ما في حديثي معه، الأمر الذي يذكّرني بتلك العبارة الرائعةِ التي ذكرتها في رسالتكَ الأولى حين قُلتَ ” إن التعايشَ في الأرضِ المقدّسةِ  منوطٌ أحياناً بالانفصالِ المُشترَك; أعني انفصالاً متّفقاً عليه إلى حدٍ ما “. كذلكَ فإن رحلتكَ التي خُضتَ غمارها في مُجتمعيَ الفلسطيني متغلغلاً في تفاصيلِ ديانتي الاسلامية كانت ايضاً مثلما ذكرت في الرسالة نفسها :  لقد كانت رحلتي  بمثابةِ اختراقٍ لواقعِ  التعايش عن بُعد ، لقد مَثّلتْ رحلتي إصراراً على امكانيةِ وجود مودّةٍ حقيقية بين الجميع

إنني أشعرُ بأنني أجد نفسي في هذه العبارات التي كتبتها، لأن قراءة كتابكَ – على الرغم من أني أقرأه مُنعزلاً وفي السرّ – تُشعرني بأنني أقوم بنوعٍ من هذا الاختراق الغير المألوف للمسافةِ الفاصلةِ بيننا، بل إن قراءةَ كتابكَ والوقوفَ مذهولاً – أحيانا لعدة أيامٍ – عند بعض المواضيع فيه تمثّل بالنسبة لي أكثر من مجرد اختراق للمسافة الحقيقيّة الفاصلة بيننا، بل انه اختراقٌ للموروث المعرفيّ الذي تربّيتُ ونشأتُ عليه منذ أكثر من اربعين سنة 

وبعد قراءتي نصفَ الكتاب باللغة الغربية ومن ثم شرائي للنسخةِ الورقيّة المكتوبة باللغة الانجليزية عبر الانترنت أنهيتُ قراءة الكتاب خلال أسبوع، وهذه هي الأفكارُ التي أرغبُ مشاركتها معكَ ومع قُرّاء هذا الكتاب. لقد استغرقَ الأمرُ بضعة أسابيعٍ  لتجميعِ أفكاري وكتابتها، وقد حاولتُ أن أعبر عن أفكاري ومشاعري باختصارٍ شديد قدر الإمكان، بالتالي قمتُ باختيار عدة مواضيعَ لأركزّ عليها في تعقيبي، وهو أمرٌ كان صعباً إلى حدٍ ما، مما دفعني إلى تحديدِ تعقيبي بالمواضيع والأفكار التي أشعرُ بأنها لم ترُقْ لي

حلّ الدولةِ الواحدة أم حلّ الدولتين؟

باستطاعتكَ أن ترى من بيتك في التلّة الفرنسيّة حاجزاً عسكرياً (ربما يكون حاجز شُعفاط/عناتا) وأحيانا ترى الدخان يتصاعدُ نتيجةً لاشعال إطاراتِ السيّاراتِ أو ربما نتيجةً للغاز المسيّل للدموع. أما على الناحيةِ الأخرى أستطيع أن أرى من بيتِ عائلتي توسّعاً مهولاً في البناءِ الاستيطانيّ في الأراضي المُصنّفة “ج”، وهُنا أتساءلُ بيني وبين نفسي: هل سنتمكّنُ في يومٍ من الأيامَ من أن نعيشَ مع بعضِنا البعضَ بحيثُ يُسمحُ للجانبين بالبناءِ والتوسّعِ دونَ أن يشعرَ أي طرفٍ بالقلقِ من أن هذا البناء والتوسعَ سيكون على حسابِ الجانبِ الآخر؟

لقد قلتَ، عزيزي يوسي، بأنّك تريدُ إنهاء التفاوت بين بين تلّتي وتلّتِكَ عبر دعمِك وتبنّيكَ لحلّ الدولتين. لكن من ناحيةٍ أخرى، أرغبُ أنا أيضاً في إنهاءِ هذا التفاوتِ عبر تعايشنا مع بعضِنا البعض، لا جنباً إلى جنب عندما تفصِلنا الحدود، بل ما أريدهُ هو أن نعيشَ جنباً إلى جنبٍ في ظلّ دولةٍ واحدةٍ للجميع

لكن السؤالَ الذي يطرحُ نفسه هُنا: كيف؟ 

لقد عبّرتَ في كتابكَ عن أن أمنَ شعبِكَ لا يتحققّ إلا من خلال دولةٍ يهوديّةٍ مُستقلّةٍ وذاتِ أغلبيّةٍ سكانيّةٍ يهوديّةٍ، وهذا أمرٌ اتفهمه تماماً ، إذ لا يُمكنني أن أناقِشكَ أو اختلفَ معكَ في مخاوفِك التي كان مصدرُها الاضطهادُ والظلمُ الذي تعرّضَ لهُ الشعبُ اليهوديّ بشكلٍ عام، والصراعُ الفلسطينيّ الإسرائيليّ بشكلٍ خاص

إلا أنني في الوقتِ نفسِهِ كفلسطينيّ لستُ مستعداً للتنازلِ عن حقّي في زيارةِ المدنِ الموجودةِ داخلَ حدود 1967 بل والعيشِ فيها أيضاً، تماماً مثلما يتمتّعُ العربُ الفلسطينيونَ الإسرائيليّونَ بهذا الحقّ. أريدُ أن أشعرَ بأن حرّيتي ليسَت مقيّدة وبأنني أملكَ الخيارَ للعيشِ في يافا وعكّا وحيفا وصفَد والجليل، أريدُ أن أذهبَ إلى البحرِ وأتمتّعَ بنسيمِهِ العليل دون أن أشعرَ بأن زيارتي للبحرِ مُرتبطةٌ بتصريحِ عمل، تلكَ الورقةُ التي قد تنتهيِ صلاحيّتها في أي وقت، بالتالي تُنتهي حريّتي بانتهاءِ تاريخ صلاحيّتهِ

وعلى فرضِ امتلاكي هذا التصريح، أين سيجدُ هذا العاملُ وقتاً للذهابِ إلى شاطيء البحر والاستمتاع بذلك حينَ يستيقظُ من نومهِ الساعةَ الثالثةَ فجراً ليهرول إلى الحاجز ومن ثمّ يعودُ متأخراً لبيتهِ بعد يومٍ طويلٍ منَ العمل الشاقّ؟

وعندما تتحدّثُ عن حلّ الدولتين، عزيزي يوسي، فإنك – واعذرني على هذه الكلمة – تفكّر بنفسِكَ وبشعبِك فقط وبمنتهى الأنانيّةٍ، إذ أريدكَ أن تدرك تماماً بأنني لا ألومكَ أبداً حين تفكّر بأمن وسلامةِ شعبِك، إنني أتفهّم ما كتبتهُ في الرسالةِ التاسعةِ من كتابك “الناجون والضحايا” حينَ قلت: ” فعندما ألقي نظرةً على حدودِنا مع جيرانِنا من الدولِ فإنني أجدُ حزب الله على الحدود الشمالية ، وأجدُ حركة حماس على الحدود الجنوبيّة ، فيما أجدُ جنودَ الحرسَ الثوريّ الإيراني على حدودِنا مع الجولان ، وهي جميعُها تنظيماتٌ إسلاميّة أخذّت على عاتِقِها تدمير دولةِ إسرائيل كواحدٍ من أهم غاياتِها وأهدافِها”. إنك تمثل شخصيّة الملكِ داوود في صراعِهِ مع جالوت في ظلّ وجودكَ وسطَ دولٍ عربيّةٍ مُسلمةٍ في الشرقِ الأوسط. إنني أتفهّمك وأتفهّم هذا الواقعَ تماماً

لكن في الوقتِ نفسه، كيف سيكون الحالُ بالنسبةِ لأناسٍ مثلي؟ أقصدُ هنا “داوودَ” الفلسطينيّ الذي يُصارعُ من أجل بقائهِ في ظلّ وجودهِ تحت حكم سلطةٍ دكتاتوريّةٍ مدعومةٍ من الحكومة الإسرائيليّة نفسِها، هذه الحكومة التي تعتبرُ السلطة الفلسطينيّة أقلّ الأعداء شرّاً وأقلّهُم عِداءاً لها

ولأكون صريحاً معكَ فإنني أكتبُ إليكَ بالنيابةِ عن نفسي فقط، إلا أنني أؤمنُ تماماً بوجودِ الكثيرين من الفلسطينيين ممن شاركوني نفسَ الأفكارِ ولا يمانعونَ في الحياةِ والعيشِ مع اليهودِ في دولةٍ واحدة. وهُنا ربما سَتردّ عليّ قائلاً بأنهم بالتأكيد لن يمانعوا في العيشِ مع اليهودِ في دولةٍ واحدة لانهم بنهايةِ المطاف سيُسيطرونَ على هذه الدولةِ ومن ثم سيقومون بطرد اليهودِ منها، وهذا تفكيرٌ أتفهّمهُ لأنه نابعٌ من التجاربِ السابقةِ التي مرّ بها الشعب اليهوديّ من نفيٍ وقتلٍ وما واجهتموه من رفضٍ وإنكارٍ من قبلِ العثمانيينَ والانجليزَ والعربِ، اضافةً إلى الهولوكوست، هذه المأساة الانسانية التي لا أنكُرها والتي أؤمنُ بأنه يجبُ أن يتمّ إدخالها في النظم التعليميّة لجميع العربِ حتى يتعلّموا عنها ويفهموا العواقبَ الوخيمة للحقدِ الشيطانيّ الأعمى. مَن بإمكانهِ أن يلومكَ حتى لو لم تتمكن من مجرد تخيّلِ إمكانيّةِ وجودِ حياةٍ مُشتركةٍ مع الآخرين؟

كذلكَ فقد شرحتَ عبر كتابكَ الأسبابَ التي تقفُ خلفَ فشلِ اتفاقيّةِ أوسلو موضحاً الأخطاءَ التي ارتكبها كل من الجانبين، وكيفَ أن السلطةَ الفلسطينيّة بقيادة محمود عباس قد رفضَت مراراً وتكراراً تقديم التنازلاتِ في سبيلِ الوصولِ إلى حلّ الدولتين. لكن، عزيزي يوسي، ربما تكونُ قد نسيتَ أن تأخذ بعين الاعتبار بعضَ الجوانبَ الأخرى الهامّة التي تسببت في هذا الفشل

لقد عبّرَتَ خلال كتابكَ عن أوجهِ التشابهِ الديني بين الجانبين، وقمت بتحميلِ مسؤوليةِ الفشل للقيادةِ العلمانيّة لأنها لم تشمل الجانبَ الدينيّ ولم تنظر إليه على أنه واحد من الطرق التي من شأنها جسرُ الهوّةِ بين المُجتمعين. وعلى الرغم من أنني لستُ مُسلماً مُلتزماً إلا أنني لا أتجاهلُ وجهة نظرك، وباعتقادي أننا لن نخسرَ شيئاً إذا جرّبنا مزيداً من الطرقِ التي من شأنها أن تجمعَ الشعبينِ وتقرّبهما من بعضهما البعض، وفي حال أثبتت الأديانُ نجاعتها في تقريبِ بعضِ الفئاتِ من بعضها البعض فإنه لا بدّ من إضافة هذا التوجّهِ إلى طاولةِ المفاوضات بحيثُ يكونُ رجالُ الدينِ جزءاً لا يتجزّأ من عمليةِ التفاوُض

كذلكَ فإن كتابكَ يوضّح لنا عن الشوقِ والحنينِ اليهوديّ وماهيّةِ الفكر الصهيونيّ وكيفَ أنه من المستحيلِ فصلُ الفكر الصهيونيّ عن كونِ الإنسانِ يهوديّاً، وذلك نظراً لارتباطِ اليهودِ بأرضِ أجدادهِم التي لطالما حاولوا الرجوعَ إليها بعد آلاف السنين من الشتات

كما أنك عرّفتنا عبر كتابِكَ على الصلواتِ والأدعيةِ اليهوديّة التي تضرّعَ عبرها اليهودُ إلى الله كل يومٍ سائلينهُ أن يُعيدهُم إلى أرض صهيون، وكيفَ أن احساسَ ثيودور هرتزِل بالحاجةِ الماسّةِ لإنهاء هذا الشتاتِ الذي امتدّ لآلافِ السنين من خلال إطارٍ سياسيّ أو هيكليّةٍ معيّنةٍ تعبّر عن عُمقِ الحنين لتلكَ الأرض، وهذا أمرٌ منطقيّ جدا بالنسبةِ لي، فطالما كانت تلكَ الأرضُ دون غيرها هي قبلةُ صلواتكُم وأدعيتكُم، وطالما كانت كتبكُم الدينية تتحدّث عن أرضِ إسرائيلَ والهيكلِ اليهوديّ في القدس، كيف بإمكانِ أي شخصٍ أن يُنكرَ هذا التاريخ الطويلَ من الصلواتِ والأدعيةِ للرجوع لهذه الارض والذي استمرّ لألفي عام؟

لقد حدّثتنا عبر كتابكَ أيضاً عن شتاتِ اليهودِ في شتّى بقاع العالم، من أوروبا إلى شمال افريقيا مروراً باثيوبيا، وكيفَ أنكم جميعاً تشاركتم الحنينَ نفسهُ والصلواتِ نفسها والتقاليد ذاتها. وما اريدهُ حقاً هو أن اتعلّم كيفَ أصغي إلى ما تقولهُ وأن اجدَ المنطِقَ في كلامكِ دون أن أتجاهلَ أياً من هذا كلّه. إنني وبكل صراحةٍ لا أنكرُ أياً من تاريخكِ اليهوديّ

ومن هذا المنطلقِ أريدُ أن أتحدّث عن الحاضر والمستقبل، إن الحوارَ الديني مهمّ جداً، لكن كيف بإمكاننا المضيّ قدما لمواجهةِ العقباتِ بطريقةٍ عمليّة بحيثُ تأخذ بعين الاعتبارِ مطالب الفلسطينيين واحتياجاتهم؟

بالنسبة للاجئين فإن الأبناءَ والأحفادَ الذين فرّ أجدادهُم – سواءاً فروا هاربينَ نتيجة للحربِ او لانهم أجبروا على الخروج من قُراهم – فإنهم يتوقونَ جداً للرجوعِ إلى قرى أجدادهِم، لماذا؟ لأنهم باختصارٍ يعيشون في مخيّماتِ لجوءٍ ضيٌّقةٍ مكتظّةٍ تنعدمُ فيها المساحةُ بشكل لا يتصوّره عقل، ومعاناتهم ستستمرّ طالما أنها تصبّ في مصلحةِ قيادتهِم

بطبيعةِ الحال فإنه عودةَ هؤلاءِ اللاجئين إلى نفسِ القرى التي خرجَ منها أجدادهم هو أمرٌ يكاد يكون شبهَ مستحيلٍ اذا نظرنا للموضوع من منظور عمليّ واقعي، وذلك نظراً لاستقرار اليهودِ في تلكَ القرى بعد إقامةِ دولةِ إسرائيل. لكن هذا لا ينفي شعورهم بالشوق والحنين لهذه الارض، وهوَ الشوق والحنينُ نفسهُ الذي حملهُ اليهود لهذه الارض لآلاف السنين. بالتالي ماذا لو سُمح للاجئينَ بالعيشِ بجانبِ جيرانهمِ الجدد من اليهود، ألا تعتقد بأن هذا من شأنه أن يغيّر مشاعرهم ونظرتهم تجاه اليهود؟

كذلك هنالك قصّة أخرى وهي التجنيس، حيثُ أن الكثيرَ من الفلسطينيين الذين فرّوا هاربينَ الى الدولِ العربيّة لم يُمنحوا جنسيّة الدولِ المضيفة لهُم، وهذه باعتقادي وصمة عارٍ على دولِ العالم العربي. وفي السياق نفسه فإن إسرائيل لن تمنحَ الجنسيّة الإسرائيليّة للسكان الفلسطينيين في الضفة الغربيّة وقطاع غزة حتى لا يتمكنوا من التصويت في الكنيست الاسرائيلي، بالتالي لماذا لا نفكر في حلٍّ وسط؟

لقد قرأتُ عن عدة مبادراتٍ تتحدّث عن إقامة سلطةٍ فدراليّةٍ مثل مبادرة ” دولتان في وطنٍ واحد “، لكن هذه المبادرات لم تكتسب شعبيّة بعد، كما أن الرأيَ العام الإسرائيليّ لا زالَ مُنقسماً في رؤيته للحلّ بين دعمِ حلّ الدولتين وحلّ الدولةِ الواحدةِ التي لا تأخذ أبسط احتياجاتِ الفلسطينيينَ بعين الاعتبار، وباعتقادي فإن كلا الحلين لا يأخذ أياً من احتياجاتِ الفلسطينيين بعين الاعتبار

لقد كتبتَ، عزيزي يوسي، بأن كلا الجانبين عليهما التنازلُ عن طموحاتِهما الكبرى والتضحيةُ ببعضِ هذه الطموحاتِ في سبيلِ الحصولِ على شيءٍ ما في النهاية، وهنا دَعني أقولُ لك بأنه من السهلِ عليكَ قول هذا لأنك في الجانبِ المنتصر من الصراع، هذا الجانبُ الذي نجح في الحصول على السواد الأعظمِ من مساحةِ أرضهِ، لكن من وجهةِ نظري فإن هذا لا يزالُ فيه نوعٌ من الاجحاف بحقكم، لأنكم كيهود تنازلتم عن مساحةٍ كبيرةٍ من الأرضِ ووافقتم على الاستقرار في أراضي سنة 1948، الا انكم كنتم محظوظين جداً حينَ قامت الدولُ العربية بشن حربٍ عليكم سنة 1967 ، فانتصرتم عليهم واستعدتم ارضكُم المقدّسة في الضفة الغربية

في الوقت نفسه وعلى الجانب الآخر من الصراع فإننا كفلسطينيين نقبعُ تحت سطوة نموذج حكمٍ لا يختلف كثيراً عن الدكتاتوريات العربيةِ المتسلطة، نقبع تحت منظومةٍ اقتصادية فاشلةٍ ومجتمعٍ عنيدٍ يشجّع الكراهيّة فقط لأن قادتهُ – مثل قادة مصر وسوريا والاردن وغيرها من الدول العربية – يريدون لشعوبهم أن تبقى غارقةً في مآسيها ولا تحاول بأي شكلٍ من الأشكال أن تنهضَ لتغيير واقعها المُزري

وهنا أوجه سؤالي إليك عزيزي يوسي: هل تأبهُ بمعاناتنا ومآسينا؟ هل تأبهُ حقاً بشخصٍ مثلي يعيشُ في فلسطين محاولاً أن يتخيّل حياتهُ في ظلّ دولةٍ مُزدهرةٍ كدولتك لكنه لا يرى ما يعطيه أملاً بأن حلمه سيتحقق؟ في الحقيقةِ فإن الفلسطينيين لن يتنازلوا عن حنينهم لتلكَ الأرض، إلا أننا في الوقت نفسهِ نرى أنكم كشعبٍ يهوديّ نجحتُم في تحقيق دولةٍ مُتقدّمةٍ حديثة، وهذا أمرٌ نحسدكم عليه صراحةً

ختاماً، فإنني تلقيتُ دعوةً من أحد العاملين في طاقم عملكَ لقراءة الكتابِ وإرسال ملاحظاتي وتعقيبي وانطباعي عليه بأسلوبٍ يحترم الآخر، وقد قمتُ بها فعلاً، وربما قد أتيحت لي الفرصة لأنني أسكنُ في الخارجِ – حيثُ اضطررتُ للرحيل لاسبابٍ اقتصادية -، إلا أنني أريدُ أن انتهزَ فرصة تواصلي معك لكي أوضح لكي بأننا حتى لو تعّلمنا عن تاريخك وتعرّفنا عليه واحترمناه، فإن هذا لا يعني أن الفلسطينيينَ لا يقفون على الجانبِ المهزوم من هذا الصراع وبأن خسارتهم تلكَ تُفقدهم القدرة على رؤية أي ضوءٍ في نهايةِ هذا النفق المظلم الذي هُم غارقون فيه فعلياً

إنني أرفضُ حلّ الدولتين، وأرفضُ أن تستمرَ معاناةُ الفلسطينيينَ تحت سطوةِ دكتاتورية السلطة الفلسطينيّة، كما وأرفضُ تقييدَ حريّة الحركةِ التي تجعلُ من تنقّلهم بين مدينة واخرى فوق هذه الارض أمراً مستحيلاً. إنهم أؤمنُ بوجود الكثير من الفلسطينيينَ الذين يُشاركونني الفكر نفسهُ ويطمحون للعيشِ في دولةٍ كالدولةِ التي تعيشُ فيها عزيزي يوسي، دولةٌ ديمقراطية تمنحُ الجميع حرّية التعبير، دولةٌ ذاتُ اقتصادٍ مُزدهرٍ، دولةٌ تجدُ لها شاطئاً حين ترغبُ بقضاءِ بعضِ الوقتِ مع أصحابك على الشاطيء

أتمنى أن تكون رسالتي قد وصلتك عزيزي يوسي، وفي حالِ وصلتكَ رسالتي فإنني أدعوكَ للتفكير معي في كيفيةِ إيجاد سُبُلٍ نعلّم بها أبناء شعبينا كيفَ بإمكانهِم أن يعيشوا مع بعضهم البعض

مع أطيب التحيات

يوسف