ما هي الأسباب التي تقفُ خلف الاضطهاد التاريخيّ والمتواصل لليهود؟ ولماذا اليهودُ بالتحديد؟

يُعتبرُ هذا السؤال غايةٌ في الأهمية، وربما يتبادر الى ذهن كل عربيّ ومُسلمٍ، وفي الواقع هنالك مؤلفات وكتبُ كثيرةٌ تطرّقت للاجابة عن هذا السؤال باسهاب. هنالك كتابان أقوم بقراءتهما حالياً يتطرقان لهذا الموضوع، الكتاب الأول اسمه ” لماذا اليهود؟” والذي قام بتأليفه الكاتبان اليهوديّان الأمريكيان دِنِس بريغَر وجوسيف تيلَشكين، والكتابُ الثاني اسمه “لماذا الألمان؟ لماذا اليهود؟” والذي قام بتأليفه المؤرخُ الألماني ألي غوتز. بالتالي سأقوم بالإجابة عن هذا السؤال باختصار شديد 

في البداية وقبل كل شيء علينا أن نُدرك جيّداً أن اليهودَ لم يكونوا مُضطهدين في كل الأماكن التي تواجدوا بها، فعلى سبيل المثال لا الحصر فان اليهودَ لم يتعرّضوا للاضطهاد ولم يواجهوا اي شكلٍ من أشكال الكراهية في الصين والهند، هذه البلدان التي عاشت فيها الأقليات اليهودية لِقرونٍ طويلة. أما الاضطهاد الحقيقيّ الذي تعرّضَ له اليهودُ فقد كان في دولِ العالم المسيحيّ بالدرجة الأولى، وبدرجةٍ أقل في بلدان العالم الإسلامي، حيث كان يتفاوت اضطهاد اليهود في العالم العربي والاسلامي بحسبِ الفترة الزمنية ِ وطبيعة كل دولة

وباعتبار أن عيسى المسيح والقديس بول والحواريّون جميعهُم كانوا يهوداً فإن رفضَ الغالبية العظمى من اليهودِ لفكرة أن عيسى هو المسيح المخلّص كان أحد أهم القضايا الدينيّة التي شكّلَت تهديداً لوجودِ الكنيسةِ المسيحيّة في البداية، بالتالي أصبحَ من البديهيّ أن تبحث الكنيسة عن أسباب للتحريض ضد اليهود مثل اتهامهم بقتلِ عيسى وصلبِه وازاحة هذه التهمة عن الفاعل الحقيقي وهو الرومان، وذلك بهدفِ كسب الامبراطورية الرومانية لصالح المسيحية، حيث كان الرومان قوّة عُظمى في ذلك الوقت، وكان المبشّرون المسيحيون يحاولون بكل ما أوتوا من قوّة نشر المسيحية في الامبراطورية الرومانية وجعل المسيحية الديانة الأولى والرسمية فيها

وعبر مرّ القرون فإن وجود اليهود على شكلِ أقلّيات ضعيفةٍ في المجتمعات ذات الأغلبيّة المسيحيّة  قد جعلَ من اليهود عُرضةً لأعمال العنف والكراهية والتحريض على اعتبار ان اليهود هم “قتلةُ عيسى المسيح”. كذلك فإن حالة الحسد والغيرة من اليهود  كانت تُعزى إلى سببين آخرين، السبب الأول هو إصدار الكنيسة قوانين ولوائح تحظرُ على اليهود تملّك الأراضي والعقارات، بالتالي أصبحَ اليهودُ يمتلكون الأموال نقداً ولم يكونوا قادرين على شراء أية ممتلكات، فكانت الوسيلة الوحيدة أمامهم لاستثمار هذه الأموال عبر إقراضها للناس، وهو ما كانت تُحرّمهُ الكنيسة على المسيحيين آنذاك، بالتالي وعبر فكرة امتلاكِ اليهود للأموال وامتهانهم مهنة إقراضِ الأموال تولّدت الفكرة الوهمية التي تقول بأن اليهودَ يسيطرون على كل شيء من خلال امتلاكهم  الأموال 

كذلك فقد عاش اليهود قديماً في حالة شتاتٍ وترحالٍ دائم، اذ كانوا دوماً يغادرون المجتمعاتِ المسيحية بحثاً عن الأمن والأمان،ولأن اليهود كانوا يُدركون بأنهم دائموا الترحال والتنقل من مكان لآخر فقد حرصوا على أن تكون ممتلكاتهم على شكلِ أموال (سيولة) حتى يتمكّنوا من أخذها معهم أينما رحلوا

أما السبب الثاني لظهورِ مشاعرِ الحسد والغيرة من اليهود فهو أن اليهودَ – برجالهِم ونسائهِم – كانوا من أكثر الناس تعليماً في الوقتِ الذي كانت تسود فيه الجهلُ والأميّة، اضافة إلى أن اليهوديّة واليهود لم يكن لديهم ذلك الاهتمام بشربِ الكحول، خلافاً للاهتمامات المسيحيّة البيزنطيّة 

ومع بداية القرن التاسع عشر عندما بدأ اليهودُ بالانخراط في المجتمعات المسيحيّة  وبدأ يبرزُ دورهُم الفاعل فيها بعد أن قام المسيحيون بإلغاء فكرة الغيتوهات (المخيمات التي كان يتم احتجازاليهود فيها في العصور الوسطى) في بداية القرن التاسع عشر، فقد حقّق اليهودُ نجاحاً وتقدّماً ملحوظاً نظراً للظروفِ الاجتماعية التي اعتادوا أن يعيشوا بها لقرونَ مضَت. لقد برزَت العديد من الشخصيات القياديّة اليهوديّة التي برزَ دورها في الفنّ والإعلام والطبّ والقانون وعالم البنوك والمصارفِ وغيرها من المجالات، الأمر الذي أدى إلى شعورِ الألمان وغيرهم من الشعوب الأوروبية بأن اليهودَ سوف يسيطرون على تلكّ المُجتمعات اذا واصلوا النجاح والتقدّم

إنّ ما يُشيرُ إلى وجودِ معاداة للساميّة في أيّ فعلٍ هو تسليطُ الضوء على ما يقومُ به اليهود دونَ غيرهِم، بمعنى أنه إذا قالَ تحدّثَ شخصٌ ما قائلاً بأن هنالك “يهودياً يحققّ نجاحاً في شتى المجالات” فإن هذا يُعدّ أمراً عادياً لا مشكلةَ فيه، لكن الأمر يكونُ مخيفاً حين يقول أحدهم بأن “اليهودَي يُحققّ نجاحاً في شتّى المجالات”، ومن مثل هذه العبارات والحقد الدفين يبدأ التحريض ضد اليهود وتصويرهُم على أنه جماعةٌ منظّمةٌ تُحاول السيطرةَ على جميع المجتمعات غيرِ اليهوديّة. ومع الأسف فإن مثل هذه الأفكار التحريضيّة كانت تجدُ آذاناً صاغية بين الأوروبيين، الأمر الذي أدى إلى تصاعد وتيرة العنفِ ضد اليهود في أوروبا 

كذلك فإنه يوجدُ بُعدٌ عميقٌ ومهم جداً لهذا السؤال، وهو أن اليهود تاريخيّاً قد كانوا أوّل من وقفَ في وجهِ عبادةِ الأوثان. وباعتبار اليهوديّة أول ديانةٍ توحيديّة فقد تمسّك اليهودُ بشدّة بمُعتقدِ وحدانيّة اللهِ على الرغمِ من عواقبِ هذا المعتقد ومحاربة الوثنيين لهم. لقد بدأت معاناة اليهودِ بسبب توحيدهِم لله منذ زمنِ اليونان الوثنيين عندما وضعوا الأوثان في الهيكلِ اليهوديّ في القدس، الأمر الذي أدّى إلى ثورةِ اليهودِ على اليونان رفضاً لعبادةِ الأوثان، حيثَ نجحَ اليهودُ في ثورتهِم تلكَ، ونحنُ اليهودُ نستذكرُ هذه الثورةَ في عيدنا المعروف باسم عيد الحانوكاه 

ومن ثمّ ظهرَت المسيحيّة من بين ثنايا اليهوديّة، فرفضنا ادّعاءهُم بأن عيسى هو المسيح المُخلّص، حيث قال اليهود حينها: لا يُمكنُ لعيسى أن يكون المسيحَ المُخلّص لأن العالم كان ولا زالَ مليئاً بالآلام والأحزان، إذ ان ظهورَ المسيح المُخلَص مُرتبطٌ بانتهاء الآلام من هذا العالم وتحوّله إلى مكانٍ أفضَل. بالتالي أخذَت المسيحيّة بثأرها من اليهود نتيجةَ لرفضهم فكرة عيسى المسيح، فقاموا بتحويل اليهودِ إلى رمزٍ مكروهٍ مقيت، فاستغلّت المسيحيّة اضطهاد اليهودِ ومعاناتهم لتدّعي بأن الله يُعاقبُ اليهود على رفضهِم لعيسى ووصفه بالمسيح. لقد كانت أسباب اضطهاد اليهودِ تعودُ في غالبيّتها للمسيحيين وأفكارهِم تجاه اليهود، بالتالي أصبحَت اليهوديّة مُعتقداً مُنغلقاً على ذاتَه لحماية نفسِه

أما في ظلّ الإسلام فقد كان وضعُ اليهودُ مُختلفاً إلى حدٍ ما، وذلك نتيجةً لرفضِ اليهودِ مُعتقداً كان يصوّرُ نفسهُ باعتبارهِ ديناً مُشابهاً لليهوديّة، خاصةً وأن الديانتين اليهودية والإسلامية هما ديانتان قائمتان على قواعد وقوانين ثابتة وواضحة، اضافة إلى وجودِ العديد من العباداتِ المتشابهة في الديانتين مثل الصيام، كما أن القرآن والتوراة يتشابهان في وجودِ العديدِ من القصص المُشتركةِ بين سطورهما

إن وضعَ اليهودِ في الدولِ ذات الغالبيّة الإسلامية شهد مدّا وجَزراً، فعلى سبيل المثال عاشَ يهود المغرب حياة كريمة بشكلٍ عام رغم ما تعرّضوا له من اضطهادٍ من فترةٍ لأخرى، وكذلك الحال بالنسبة ليهودِ اليمن. أما في العراق فقد كان وضع اليهود  في بداية القرن التاسع عشر أفضلَ بكثيرِ من بلادِ فارس، لكن في بداية القرن العشرين تعرّضَ اليهودُ في مُختلف بلدان العالمِ العربيّ والإسلامي لاضطهادٍ جماعيّ أدى إلى اندثار المُجتمعاتِ اليهوديّة من تلكَ البلدان وهروب اليهود إلى دولةِ إسرائيل 

هذه إجابة مُختصرة جدّاً لهذا السؤال، وبالتأكيد هنالكَ المزيد من التفاصيل التي بامكاننا اضافتها بإسهابٍ لتوضيح الإجابة بشكل أعمَق،  لذلكَ آمل ان تُعطيكُم  هذه الإجابة فكرةَ ولو مختصرةً عن أسباب الاضطهاد التاريخيّ الذي تعرّضَ له اليهود منذ الأزل 

يوسي كلاين هاليفي